كثيراً ما يتمّ اعتبار أوروبا موطن الحريات الدينية والعرقية، ودوماً ما يتمّ إبراز فرنسا على أنّها "بلاد التنوير والحرية"، وباريس على أنّها "عاصمة النور"، لكنّ عاصمة النور تلك شهدت على أحد أعظم المجازر في التاريخ، ليس تجاه مخالفين في الدين أو العرق، وإنما تجاه طائفة مسيحيّة أخرى، هي طائفة الهوغونوت البروتستانت. في هذا التقرير نحكي لكم قصتهم في فرنسا.
جون كالفن.. خليفة مارتن لوثر
في عام 1509 وُلد اللاهوتي جون كالفن في فرنسا. يعتبر كالفن بشكلٍ ما خليفة مارتن لوثر مُطلق عصر الإصلاح الديني "البروتستانتي" في أوروبا.
كان لكالفن تأثير قوي على المذاهب والأفكار الأساسية للبروتستانتية، ويُنسب إليه على نطاقٍ واسع تغيراتٍ واسعة في العقيدة المسيحية في ذلك الوقت، إذ إنه كان الشخصية الأكثر أهمية في الجيل الثاني من الإصلاح البروتستانتي.
وعلى مدار القرنين السادس عشر والسابع عشر اعتنق الهوغونوتيون – البروتستانت في فرنسا – تعاليم اللاهوتي جون كالفن، إذ استقطب نهج كالفن المتعلِّمين الفرنسيين.
وكان من بين أتباعه بعض من ألمع النخب الفرنسية المرموقة في فرنسا ذات الأغلبية الكاثوليكية، بجانب العديد من التجار وضباط الجيش البارزين. وبسبب التأثير الذي مارسه أتباع الكالفينية في دوائر الحكم، فقد تم التسامح معهم في البداية من قبل التاج الفرنسي الكاثوليكي.
تأسيس كنيسة الهوغونوت والانتشار ونشوب الصراع
وفي عام 1555 تأسست أول كنيسة للهوغونوتيين الكالفنيين (المنتسبين لجون كالفن) في منزلٍ خاص في باريس، وبحلول عام 1562 أصبح هناك مليونا شخص من الهوغونوت في فرنسا مع أكثر من ألفي كنيسة، وفي هذا العام أقر مرسوم سان جيرمان بحق الهوغونوت في ممارسة شعائرهم الدينية وإن كان ذلك مع وجود قيود؛ إذ لم يُسمح لهم بممارسة شعائرهم ليلاً أو في المدن خارج باريس، كما لم يُسمح لهم بالتسلُّح خوفاً من تمردهم.
كان الملك فرنسيس الأول ملك فرنسا يفضل الهوغونوت بسبب مكانتهم وقدراتهم بالإضافة إلى مساهمتهم الاقتصادية في الشؤون المالية للبلاد. ومع ذلك، كانت الكنيسة الكاثوليكية مصممة على أن تظل القوة المسيطرة في البلاد، إذ كان 90% من سكان فرنسا كاثوليك.
إلا أن قوة الهوغونوت تعاظمت مع الوقت، وأصبح لديهم رغبةٌ في أن يتحوَّل التاج الفرنسي للبروتستانتية، نتيجة لذلك دبر الهوغونوت مؤامرة تهدف لاختطاف الملك الصبي فرانسيس الثاني بحجة تعديل السياسات الوطنية في البلاد، إلا أن ذلك أفضى للقضاء على جميع المتآمرين، ما جعل الأمير دي كوندي – أحد زعمائهم – يعلن أنه "لا أمل إلا بالرب والسلاح"، وهو ما أدى إلى تصعيد الصراع بين الطرفين.
وفي أبريل 1562، اجتمع قادة الهوغونوت ليعلنوا عن البيان الذي ذكروا فيه "أنهم كرعايا أوفياء كانوا مدفوعين لحمل السلاح من أجل حرية الضمير نيابةً عن القديسين المضطهدين". وبهذا أعلن الهوغونوت أنفسهم مجموعةً تحمل السلاح ضد أي قوات فرنسية معادية.
مذبحة فاسي واشتعال الحروب الدينية
قبل شهرٍ من إعلان الهوغونوت حمل السلاح لحماية أنفسهم، تعرض 300 منهم كانوا يؤدون شعائر دينية في حظيرةٍ خارج سور بلدة فاسي بفرنسا للهجوم من قبل قواتٍ فرنسية تحت قيادة فرانسيس دوق جوي.
قُتل في ذلك اليوم أكثر من 60 من الهوغونوت وأصيب أكثر من 100 خلال مذبحة فاسي. وزعم فرانسيس أنه لم يأمر بشن هجوم، لكنه انتقم منهم بسبب إلقائهم الحجارة على قواته.
أشعلت مذبحة فاسي عقوداً من العنف عُرفت باسم حروب الدين الفرنسية. ففي أبريل 1562، أدت أعمال شغب إلى مقتل ما يصل إلى 3000 شخص، العديد منهم من الهوغونوتيين. واستمر التحارب حتى عام 1563 إذ اُغتيل فرانسيس – دوق جوي- من قبل الهوغونوت، ولكن في النهاية قرر الطرفان الاتفاق على هدنة.
مذبحة يوم القديس بارثولوميو
سريعاً ما تصاعدت أعمال العنف؛ ما تسبب في نشوب الصراع واشتعال التحارب مرة أخرى. ففي 24 أغسطس 1572 كان الآلاف من الهوغونوت في باريس يحتفلون بزواج هنري أمير مملكة نافار البروتستانتي – نافار منطقة في شمال إسبانيا – من الأميرة مارغريت دي فالوا ابنة الملك هنري الثاني في يوم القديس بارثولوميو.
حينها وقعت إحدى أكبر المذابح في التاريخ: مذبحة يوم القديس بارثولوميو التي شهدت مقتل ما يصل إلى 70 ألفاً من الهوغونوت في جميع أنحاء فرنسا، والتي يُعتقد أنها من تدبير كاثرين دي ميديشي، الملكة الوصية على عرش ابنها من 1560 إلى 1574.
ففي ليلة 24-25 أغسطس 1572، قُتل الأدميرال كوليجني زعيم الهوغونوت وقُتل جميع الهوغونوت البارزين في باريس. واستمرّت مذبحة يوم القديس بارثولوميو في جميع أنحاء فرنسا، وقرر الناجون البروتستانت المقاومة وشُكل على إثر ذلك تيار سياسي في عام 1573 بقيادة فيليب دي مورني.
كان الهوغونوت يأملون في البداية أن يتحوَّل تاج فرنسا إلى البروتستانتية، لكنّ ذلك كان مستحيلاً؛ وسرعان ما شهد الهوغونوت ليس القتل فقط بل أيضاً التعذيب والتنكيل والملاحقة على يد مواطنين فرنسيين كاثوليك شكلوا ميليشيات مسلحة طاردت المواطنين الهوغونوت.
استمر العنف والقتل في 12 مدينة على مدى شهرين بعد مذبحة يوم القديس بارثولوميو، ما أدى إلى الموجة الأولى من رحيل الهوغونوت من فرنسا إلى إنجلترا وألمانيا وهولندا.
مرسوم نانت وفونتينبلو
بعد مذبحة بارثولوميو استمرت المعارك العسكرية واستمر إراقة دماء المدنيين من الهوغونوت حتى صدور مرسوم نانت في أبريل 1598 على يد الملك الفرنسي هنري الرابع المتزوج من مارغريت دي فالو والذي شكَّل ميثاق حريتهم الدينية والسياسية، ما أدى إلى إنهاء الحرب الأهلية ومنح الهوغونوت حقوقهم التي طالبوا بها.
مع اعتلاء الملك لويس الرابع عشر العرش الفرنسي في عام 1643، بدأ اضطهاد الهوغونوت مرة أخرى وتصاعد إلى درجة أن الملك وجه القوات الفرنسية للاستيلاء على منازل الهوغونوت وإجبارهم على التحوُّل إلى الكاثوليكية.
وفي عام 1685 أصدر لويس الرابع عشر مرسوم فونتينبلو الذي حل محل مرسوم سان جيرمان وجعل البروتستانتية غير قانونية. تلا ذلك المزيد من إراقة الدماء، وعلى مدى السنوات العديدة التالية فر أكثر من 200 ألف من الهوغونوت من فرنسا إلى بلدان أخرى.
في عام 1686 قرر لويس الرابع عشر منع الهوغونوت من الفرار إلى الجنوب إلى المجتمعات البروتستانتية المعروفة باسم "فالدويس"، الذين استقروا في منطقة بيدمونت بإيطاليا والتي كانت تتماس مع الحدود الفرنسية. لذلك؛ دمرت القوات الفرنسية القرى البروتستانتية، واعتُقِلَ 12 ألف بروتستانتي في المعسكرات الفرنسية حيث مات معظمهم جوعا، وأُرسل القلائل الذين نجوا إلى ألمانيا.
مع قدوم القرن الثامن عشر بدا أن الهوغونوت قد تم القضاء عليهم أخيراً، وأعلن لويس الرابع عشر في عام 1715 أنه أنهى جميع ممارسات الديانة البروتستانتية في فرنسا. ومع ذلك، وفي نفس العام، عقد تجمع البروتستانت مؤتمراً في مدينة نيم الفرنسية والذي كُرِّس لترميم الكنيسة البروتستانتية، فعلى الرغم من انخفاض عدد الهوغونوت، إلا أن البروتستانتية استمرت في فرنسا.
آثار شتات الهوغونوت
على مدى السنوات العديدة التالية، فقدت فرنسا أكثر من 400 ألف من سكانها البروتستانت. هاجر الكثيرون إلى إنجلترا وهولندا وأمريكا وأصبحوا مواطنين فيها. كان رحيل الهوغونوت كارثة لفرنسا، حيث كلفها الكثير من نفوذها الاقتصادي. ففي بعض المدن الفرنسية كانت الهجرة الجماعية تعني خسارة نصف السكان العاملين.
كان الهوغونوت غزيروا الإنتاج، بشكل خاص في صناعة النسيج، وكانت مدن أوروبية كثيرة حريصة على جذب الهوغونوت وتنافس على إغرائهم، إذ إنّ تدفق العمال المهرة والمتعلمين يمكن أن يساعد في إنعاش اقتصاداتهم، وهو ما حدث بالفعل في مدن مثل برلين الألمانية وأمستردام الهولندية.
على الرغم من المعارضة الشرسة من قبل رجال الدين الكاثوليك الرومان، لكن الرأي العام الفرنسي بدأ ينقلب ضد ممارسات الاضطهاد، وهو ما أدى لصدور مرسوم عام 1787 أعاد جزئياً بعض الحقوق الدينية والمدنية للهوغونوت.
وفي نوفمبر 1789، مع ولادة الثورة الفرنسية؛ أكدت الجمعية الوطنية على حرية الدين، ومنح البروتستانت القبول في جميع المناصب والمهن.