ينظر إلى إيزابيلا، ملكة قشتالة التي عاشت بين منتصف القرن الخامس عشر وبداية القرن السادس عشر، على أنها السبب في توحيد راية إسبانيا السياسية والدينية مجدداً، لكنها في الواقع حققت الهدف الذي عجز عنه أسلافها بطرق وحشية، تضمّنت الاضطهاد الديني للمسلمين واليهود من خلال محاكم التفتيش، والإقصاء السياسي لجميع الطوائف المسيحية الأخرى فيما عدا الكاثوليكية، وقد ساعدها بكل تأكيد ضعف الممالك الإسلامية التي انهارت الواحدة تلو الأخرى لتكون غرناطة آخرها.
إيزابيلا ملكة قشتالة ترث مملكة منقسمة
كانت إسبانيا قبل حكم إيزابيلا عبارة عن ممالك صغيرة مقسمة، أبرزها قشتالة التي حكمها والدها يوحنا الثاني، والتي كانت ذات يوم قوة مسيحية صغيرة في شمال إسبانيا في القرن العاشر، لكنها نمت وتوسعت تدريجياً جنوباً مع ضعف الحكم الإسلامي.
أما الممالك المسيحية الأخرى في أيبيريا فكانت أراغون من الشرق، ونافارا من الشمال، والبرتغال من الغرب.
ولكل مملكة من هذه الممالك عائلة حاكمة تقاتل وتناوش جاراتها باستمرار، إلى أن اعتلت إيزابيلا عرش قشتالة، وتمكنت بدهائها من التمهيد لتوحيد تلك الممالك تحت راية واحدة.
معركة ضارية على عرش قشتالة يفوز بها الأكثر صبراً وحكمة
لم يكن من المقرر أن تعتلي إيزابيلا عرش قشتالة، لأنها أنثى أولاً، ولأن ترتيبها الثالث بين إخوتها ورثة العرش ثانياً.
كانت إيزابيلا المولودة عام 1451 الطفلة الثانية للملك يوحنا الثاني ملك قشتالة، فقد كان وريث عرشه وابنه الأكبر من زوجته الأولى، بينما كانت إيزابيلا وأخوها الأصغر ألفونسو من زوجته البرتغالية الثانية.
عندما تسلم هنري عرش قشتالة بعد وفاة والده، أبعد إخوته غير الأشقاء وأمهم عن البلاط، وكان شغله الشاغل هو إنجاب وريث للعرش كيلا يؤول في نهاية الأمر إلى إخوته، إلا أنه عجز عن الإنجاب لفترة طويلة، ما ألصق به لقب "هنري العاجز".
تزوج هنري للمرة الثانية، وهذه المرة كانت زوجته ابنة ملك البرتغال، التي أنجبت له ابنته جوانا عام 1462، التي عيّنها هنري وريثة شرعية للعرش من بعده.
واستدعى كلاً من ألفونسو وإيزابيلا ليعيشا في البلاط وفرّق بينهما وبين أمهما، ليبقي منافسي ابنته تحت عينيه، وبالتالي تحت السيطرة.
لكن سرعان ما بدأت الشائعات تنتشر في البلاط حول أبوة الملك "العاجز" لجوانا، ما قوّض شرعيتها في نظر الكثيرين من النبلاء الذين راحوا يروجون لألفونسو على أنه الوريث الشرعي للعرش (رغم أن ألفونسو أصغر سناً من إيزابيلا فإن كونه ذكراً يجعله أكثر أحقية لاعتلاء العرش)، وفقاً لما ورد في موقع National Geographic.
وبعد ضغط كبير من النبلاء اضطر هنري للانصياع وتسمية ألفونسو وريثاً للعرش بعد إعلان خطبته على ابنته جوانا، بحيث يتشارك كلاهما في التاج.
لكن هنري سرعان ما تراجع عن قراره، واندلعت حرب أهلية توج فيها المعارضون لهنري ألفونسو ملكاً على قشتالة، لكن حكمه لم يكتسب الشرعية الكافية، ولم يدُم طويلاً، فقد توفي الأمير شاباً تاركاً أخته خلفاً له.
عرض النبلاء على إيزابيلا أن تكون الملكة الجديدة، إلا أنها رفضت وناورت بذكاء إلى أن تمكنت من انتزاع اعتراف من هنري على أنها الوريثة الشرعية له.
اتحاد قشتالة وأراغون
كان يفترض ألا تتزوج إيزابيلا إلا بإذن أخيها الأكبر الملك هنري، وقد كان ذلك أحد الشروط الأساسية في الصفقة التي عينت إيزابيلا من خلالها وريثة لعرش قشتالة.
وقد عرفت إيزابيلا متى يجب أن تتحلى بالصبر، ومتى يجب أن تتخذ خطوة جريئة، ولعل مهارتها تلك كانت من أبرز الأسباب التي أهّلتها للوصول في النهاية على العرش.
كان الزواج في القرن الخامس عشر أداة سياسية لخلق تحالفات بين الممالك، وقد أدركت إيزابيلا ذلك، وسعت لإنشاء تحالفاتها الخاصة، وبدلاً من القبول بالعرض الذي رتبه لها أخاها الملك هنري بالزواج من ملك البرتغال أفونسو الخامس الذي يكبرها بـ20 عاماً، قررت إيزابيلا الزواج من فرديناند وريث مملكة أراغون، الذي كان يصغر إيزابيلا بعام واحد.
كانت إيزابيلا تدرك أنها ستفقد سلطتها بالزواج من ملك البرتغال، بينما ستتمكن من توسيع سلطاتها بشكل هائل بالتحالف مع أراغون، فتزوجت من فرديناند عام 1469 دون موافقة شقيقها، الأمر الذي أغضبه وجعله يتراجع عن قراره بشأن توريث عرش قشتالة لأخته.
لكن هنري توفي بعد هذا الزواج بخمس سنوات، واندلعت حرب بين ابنته جوانا وإيزابيلا، التي كان النصر حليفها في نهاية المطاف.
تغييرات سياسية جذرية في قشتالة
كانت إيزابيلا تدرك السلطة الواسعة التي يتمتع بها النبلاء في قشتالة، فقد استطاعوا يوماً ما التأثير على الملك هنري وتحدي رغبته في تعيين ابنته جوانا وريثة للعرش، كما استطاعت طائفة منهم الاتحاد مع ألفونسو لتعيينه ملكاً بوجود ملك آخر على العرش هو أخوه هنري.
رغم أن مساعي النبلاء كانت قد صبّت في مصلحة إيزابيلا، وساهمت بشكل أو بآخر في وصولها إلى السلطة، فإنها كانت تدرك أنهم يشكلون خطراً على النظام الملكي وأنهم من الممكن أن ينازعوها سلطتها.
لذلك كانت أبرز الأعمال التي قامت بها إيزابيلا عندما اعتلت عرش قشتالة هي تقليص سلطة النبلاء، وزيادة السلطة الملكية في المقابل، وفقاً لما ورد في Ancient History.
استطاعت إيزابيلا أن تقوم بتغييرات سياسية جذرية في قشتالة، أدت إلى تمكين حكمها وفرض سيطرتها، وفي سبيل ذلك لم تقم فقط بالقضاء على سلطة النبلاء، بل ألغت الوجود الديني للمسلمين واليهود والطوائف المسيحية غير الكاثوليكية في إسبانيا.
محاكم التفتيش الإسبانية.. الجانب المتوحش من حكم إيزابيلا
لم تكن إسبانيا في القرن الخامس عشر موطناً للمسيحيين فقط، لكن إيزابيلا وزوجها فرديناند سعيا إلى جعلها كذلك لتمكين سلطتهما السياسية عن طريق الاضطهاد الديني لجميع الديانات الأخرى والطوائف فيما عدا الكاثوليكية.
وابتداء من عام 1480، أمرت إيزابيلا بإنشاء محاكم التفتيش الإسبانية.
استهدفت هذه المحاكم اليهود والمسلمين الذين تحولوا إلى المسيحية، لكنهم كانوا مشتبهين بممارسة معتقداتهم السابقة سراً.
استخدمت محاكم التفتيش آلات تعذيب وحشية لنزع الاعترافات من حوالي 13 ألف مسلم ويهودي أُجبروا على اعتناق المسيحية.
ومن ضمن آلات التعذيب التي كانت تستخدمها محاكم التفتيش الإسبانية: مقعد يهوذا، وهو جهاز معدني شبيه بالمقعد، تزينه قمة هرمية خشبية، وكان على الضحية الجلوس عارياً على تلك القمة الهرمية، حتى تجد قمة الهرم طريقها للدخول إلى فتحة المهبل أو فتحة الشرج!
وقد كانت نتيجة تلك المحاكم قتل وتهجير الآلاف من غير المسيحيين، وإجبار من تبقى على اعتناق المسيحية مع مراقبة دائمة لهم للتأكد من ولائهم الديني للكنيسة.
سقوط غرناطة
بحلول القرن الخامس عشر، كانت الدولة الإسلامية الوحيدة المتبقية في أيبيريا هي إمارة غرناطة في الجزء الجنوبي من شبه الجزيرة.
وفي عام 1492، سقطت غرناطة في أيدي قوات إيزابيلا وفرديناند وعادت إيبيريا إلى السيطرة المسيحية الكاملة.
وخلال تلك السنة أيضاً صدر مرسوم قصر الحمراء (المعروف أيضاً باسم مرسوم الطرد)، الذي ينص على طرد ما يقرب من 100 ألف يهودي من إسبانيا، ويعتبر ذلك المرسوم أكبر عملية طرد لليهود في أوروبا قبل محرقة النازيّة.
توحيد إسبانيا ودعم رحلة كولومبس
كانت الملكة إيزابيلا قاسية في التعامل مع أعدائها الداخليين والخارجيين، وقد تمكنت عبر مناوراتها السياسية من جهة وقمعها الوحشي لمعارضيها من جهة أخرى من تمكين سلطتها في سائر إسبانيا وليس في قشتالة وحدها.
جنباً إلى جنب مع زوجها فرديناند الثاني، وحدت إيزابيلا إسبانيا سياسياً ودينياً، وشكّلت دولة عظمى تضمنت ساحل البحر الأبيض المتوسط الثري في الشرق.
وبدعمها لرحلة كريستوفر كولومبس الاستكشافية، استطاعت فرض الهيمنة الإسبانية لاحقاً في أمريكا الجنوبية.
وقد استطاعت إيزابيلا انتزاع اعتراف من البابا ألكسندر السادس بجهودها لترسيخ العقيدة المسيحية في أراضيها، وأطلق عليها وعلى زوجها فرديناند لقب "الملوك الكاثوليك".
توفيت إيزابيلا في عام 1504، ودُفِنت رفاتها لاحقاً في الكنيسة الملكية بغرناطة، لتصبح ابنتها جوانا خليفة لها على عرش قشتالة تحت وصاية والدها فرديناند.