في التاريخ معارك جوهرية لا تعود الدولة بعدها مثلما كانت قبل، يتغيّر كلّ شيء، فإما تحوز تلك الدولة كل شيء وإمّا تخسر كلّ شيء، وهذا ما حدث في معركة كوينجراتز التي يمكن اعتبارها المعركة التي أخرجت الإمبراطورية النمساوية من "التاريخ".
"النمسا".. قوة أوروبا الطاغية لستة قرون
قبل صعود فرنسا وبريطانيا باعتبارهما أقوى وأضخم قوتين استعماريتين في القرن الثامن عشر، سبقتهما دولٌ أوروبية أخرى، ربما كانت أقوى لكنّ الزمان لم يمهلها لتكمل ما بدأته. وعلى سبيل المثال إسبانيا والبرتغال وحتّى هولندا.
لكنّ القوّة الأوروبية التي ظلّت لفتراتٍ كبيرة من التاريخ مسيطرة على أغلب أوروبا إلى جانب الدولة العثمانية بالطبع، كانت الإمبراطورية النمساوية، والتي ربما اتخذت أشكالاً وأسماء مختلفة عبر التاريخ، لكنّ الحقيقة أنّ جيشها القوي ظلّ منيعاً طيلة ستة قرون في أوروبا الوسطى والغربية.
ربما للتدليل على هذا الأمر نذكر أنّ أوّل التحالفات الكبرى للدولة العثمانية في أوروبا كان مع فرنسا ضدّ الإمبراطور النمساوي الذي هزم ملك فرنسا فرنسيس الأوّل في معركةٍ حاسمة، ما جعل ملك فرنسا يتجه للتحالف مع العثمانيين في بدايات القرن السادس عشر، ومع السلطان سليمان القانوني بالتحديد.
وقد كان هذا التحالف هو الذي حفظ العرش الفرنسي، ويمكنك القراءة بالتفصيل أكثر عن علاقة الدولة العثمانية بفرنسا وتحالفها معها ضد النمسا من هذه المادة.
وإضافةً إلى هذا التحالف فقد شكّلت النمسا حجر عثرة رئيسية للتوسُّع العثماني في أوروبا، فبعدما سيطرت الدولة العثمانية على العديد من دول وإمارات أوروبا الشرقية، كانت الحرب بين العثمانيين والنمساويين من خلال وكلاء في دول شرق أوروبا دائمة طول فترة تواجد كلتا الإمبراطوريتين تقريباً.
يمكن فهم قوة الإمبراطورية النمساوية وصراعها الدائم مع الدولة العثمانية من خلال معركة كوسوفو، ويمكنك القراءة عنها من هنا، أو من خلال القراءة عن معركة موهاكس من هنا.
أوتو فون بيسمارك.. كلمة السر في صعود ألمانيا
لكنّ هذه السيطرة النمساوية على أوروبا بدأت تتراجع عندما ظهرت قوَّةٌ أخرى طوّرت جيوشها وسلاحها بشكلٍ أفضل، وهي الدولة البروسيّة الألمانية بقيادة القائد الفذّ أوتو فون بيسمارك.
استطاع بيسمارك الذي أصبح رئيس وزراء بروسيا في منتصف الأربعينيات أن يوحّد الإمارات والدويلات ذات العرق الألماني في دولةٍ موحدة، هي هذه الدولة التي استمرّت قوتها وبأسها حتّى الحرب العالمية الأولى.
يعتبر بسمارك أحد أذكى الشخصيات السياسية في التاريخ، وقد خاض معركة كوينجراتز مع الإمبراطورية النمساوية، وهي معركة حاسمة جعلت دولته لاحقاً هي الدولة الألمانية بحقّ، وسحبت البساط من الإمبراطورية النمساوية الآفلة.
كانت استراتيجية بيسمارك بعدما أصبح رئيس الوزراء البروسي بأربع سنوات فقط هي خوض هذه المعركة الحاسمة مع النمسا، لتحرير المناطق الألمانية من تحت سطوتها وضمّها في اتحادٍ ألمانيٍّ واحد.
لكنّه أيضاً أراد أن يكسب النمسا في صفه بعد أن يهزمها! كيف؟ ولماذا؟
كانت فرنسا عدوّة لبروسيا في ذلك الوقت، أراد بيسمارك أن يخطف نصراً سريعاً على النمسا ويعيد سيطرة البروسيين على ألمانيا، قبل أن تتدخّل فرنسا في المعركة، وعندما يدخل بيسمارك في معركة مع فرنسا فقد أراد أن يُبقي النمسا على الحياد، بل والأكثر من ذلك أن يقيم معها تحالفاً مستقبلياً ضدّ الأطماع الروسيّة، فقد كانت روسيا تشترك بحدود واسعة مع الإمبراطورية النمساوية.
وللحقيقة فقط استطاع بيسمارك الداهية تحقيق خطته بحذافيرها!
معركة كوينجراتز الحاسمة
ليس مهماً أن نذكر سبب المعركة، فقد كانت المناوشات دائمة بين الإمبراطوريتين والصراع الحاسم بينهما وشيكاً، وهكذا بدأت الحرب عند حصن كوينجراتز، وقد كان الجيش النمساوي الذي يوازي 215 ألف جندي فخوراً بتاريخه الضخم ورصيده الهائل من الانتصارات.
لكنّ هذا الجيش ذا الوزن التاريخي لم يكن لديه قيادات جيدة في ذلك الزمان، رغم معداته الضخمة وأعداده الهائلة. اختار الإمبراطور النمساوي أفضل قادته وهو جنرال مجري في الجيش النمساوي اسمه لوديويج ريترفون بنديك، ورغم كونه مجرياً -وهو ما ينقص من قيمته في الجيش النمساوي- فإن الإمبراطور قد اختاره للمهمة الصعبة بقيادة جيشه المؤلف من 215 ألف جندي.
ومع قرار تنصيبه قائداً عاماً للجيش، عيّن الإمبراطور قائدي أركان حرب من الطبقة النمساوية الأرستقراطية، وكانا غير جديرين بالقيادة، ويبدو أنّ بنديك عندما فوجئ بقرار تعيينهما شعر أنّ نتيجة المعركة لن تكون كما يتمنّى الإمبراطور، وقد كان ذلك بالفعل! فقد خسرت الإمبراطورية بسبب هذين الأرستقراطيين المدللين.
عسكر الجيش النمساويّ إلى جانب نهر الألب، وقد وضع القائد المجري بينديك خطة محكمة وقسّم قواته ضخمة العدد بشكلٍ متناسق، واستعد لمفاجأة البروسيين. لكنّه كان يخشى دوماً من الجنرالين الأرستقراطيين اللذين عادةً ما يشعران أنّهما أعلى من الآخرين وأنه لا يجب عليهما الانصياع لأوامر قائدهما الأقل منهما في الطبقة.
وقبيل المعركة، وفي أثناء المناوشات الأولى خسر جيشه معركةً صغيرة، واكتشف القائد أنّ الجيش البروسيّ لديه سلاح فتّاك عن سلاح جيشه: البندقية. بينما يستخدم جيشه السيوف والأسلحة البيضاء أكثر من البارود.
أرسل الجنرال للإمبراطور النمساوي رسالةً من أرض المعركة قبل أن تبدأ، وفق ما ذكر إريك دورتشميد في كتابة "دور الصدفة والغباء في تغيير مجرى التاريخ": "أطلب من جلالتكم أن تعقدوا هدنة. فهناك كارثة محتومة تنتظر الجيش". وجاءه رد الإمبراطور حاسماً: "إنّ الهدنة مستحيلة. في حال انعدام أي خيارٍ آخر، آمرك أن تنسحب بشكلٍ منظّم".
بدأت المعركة، وكان قائد البروسيين في هذه المعركة هو القائد المحنّك الكونت هيلموت فون مولتكه، وقد وضع خطته للهجوم على ثلاث جبهات. وفي إحدى الجبهات تأخّر أحد أفرع الجيش البروسيّ الثلاثة عن الهجوم، وبينما هاجم الجيشان الآخران منطقتين من مناطق الجيش النمساويّ ظلّ جزءٌ آخر من الجيش النمساوي بلا قتال.
من كان قائد هذه الجبهة التي بلا قتال؟ كان الجنرالين الأرستقراطيين المغرورين. وهكذا، عندما لم يجدا جيشاً يهاجمهما شعرا بالضيق والملل فدخلا المعركة. لكنّ الجيش البروسي الذي وصل متأخراً وجد الجبهة خالية تماماً من المدافعين، فاحتل إحدى القرى وثبّت المدفعيّة واستطاع إحراز نصرٍ ضخمٍ على الجيش النمساوي العرمرم.
وكانت خسائر الجيش النمساوي هائلة: 44 ألف جندي! بينما كانت خسائر الجيش البروسي 9 آلاف جندي فقط. أي أنّ الخسائر النمساوية كانت خمس أضعاف الخسائر البروسيّة.
عندما انسحب الجيش النمساوي كان لا بدّ أن يحاكم شخصٌ مُذنب. فهل يعاقب الجنرالان من الطبقة الأرستقراطية؟ لا، سيحاكم الجنرال المجريّ الذي ليس من طبقة الأرستقراطيين!
وهكذا، سنفهم من هذا المشهد أنّ الإمبراطورية النمساوية لم تعد نفسها، فجيشها بلا قيادات حقيقية، والقيادة الوحيدة الحقيقية ستحاكم على هزيمة لم تكن هي المسؤولة الوحيدة عنها.
وبالإجمال، فقد غيرت هذه المعركة التاريخ الأوروبي كاملاً، بل والتاريخ العالمي. فلولا هذا الانتصار البروسي ربما لم يستطع بيسمارك أن يوحد الإمارات والدول الألمانية في دولةٍ قويةٍ واحدة، بل وربما لم تحدث الحربان العالميتان الأولى والثانية!.