اعتُبر يوم معركة أنتيتام 17 سبتمبر/أيلول 1862، اليوم الأكثر دمويةً في تاريخ الحرب الأهلية الأمريكية. وقد سجلت هذه المعركة أيضاً أحد أبرز القيادات "الغبية عسكرياً" في التاريخ الأمريكي. ورغم أنه يمكن اعتبار نتيجة المعركة هي فوز المتمردين، فإن الاتحاديين قد فازوا في النهاية واستطاعوا توحيد أمريكا.
سياق معركة أنتيتام.. الحرب الأهلية الأمريكية
بدأت الحرب الأهلية الأمريكية عام 1861 بعدما أعلنت سبع ولايات من ضمن 34 ولاية أمريكية انفصالها عن الدولة وتشكيل "الولايات الكونفدرالية" في يناير/كانون الثاني 1860. وبعد الإعلان بثلاثة أشهر بدأت سلسلة من المعارك الدامية، التي يعتبر عدد ضحاياها الأكبر في التاريخ الأمريكي.
كانت الحرب بين الكونفدراليين (المنفصلين) والاتحاديين (الولايات المتبقية التي لم تنفصل). وقد انتصر الاتحاديون في النهاية وضمّوا بقية الولايات المنفصلة، وقد أسهمت الحرب الأهلية الأمريكية في تحرير نحو 3 ملايين إنسان من العبودية في أمريكا.
وخلال هذه المعارك الضارية في الحرب الأهلية الأمريكية، حدثت معركة أنتيتام، التي كان النصر فيها حليفاً للقوات الكونفدرالية الانفصالية، رغم قلة أعدادها وضعف تجهيزها. ولكن رغم انتصار الانفصاليين في تلك المعركة، فإن النصر النهائي كان من نصيب الاتحاديين، عندما انتصروا في الحرب عام 1865.
وقد سجل المراسل الحربي الأمريكي ديفيد ستروثر مشاهدته عن الدمار الناجم عن معركة أنتيتام، قائلاً:
"انطمرَ كثيرون تحت التراب، مُزِقوا، حُطِموا، وداستهم الأرجل، إذ بدوا كتكتلٍ من التراب. وكنتُ مضطراً إلى أن أدقق النظر كثيراً قبل أن أتبينَ أنهم كائناتٌ بشرية".
تزعزع القيادة الاتحادية وثبات القيادة الانفصالية
كان قائد القوات الاتحادية هو الجنرال الشاب جورج ماكليلان، الذي كان مرؤوسوه يسمونه "نابليون الصغير"، والذي وقف مزهواً قائلاً لأحد جنرالاته: "إذا لم أقضِ على إدوارد لي (قائد الانفصاليين)، فلك أن تنعتني بما تشاء". لكن قواته الـ87 ألفاً، لم تصمد أمام جيش الانفصاليين الثلاثين ألفاً. ولكن هناك ميزة أخرى للانفصاليين، فقد كانوا مسلحين ببندقيةٍ نطاق تصويبها يصل إلى 400 متر، وكان الاتحاديون مسلحين ببندقية نطاقها قرابة 40 متراً فقط.
على الجانب الآخر كان الجنرال المحنك إدوارد لي، يعلم أن قواته الصغيرة نسبياً لن تستطيع مواجهة جيش الاتحاديين الكبير، فقرر أن يتحلى بالقاعدة الأثيرة: خير وسيلة للدفاع؛ الهجوم. فقرر أن يزحف إلى العاصمة الاتحادية واشنطن ويسيطر عليها، وهكذا ستنتهي الحرب بانتصارهم.
وفي سبيل ذلك كانت خطته تقضي بتشتيت جيش الاتحاديين والسيطرة قدر الإمكان على خطوط إمدادهم، ليستطيع تغطية احتياجات جيشه نفسه. وهكذا كتب الجنرال المحنك خطته في نسختين، لإرسالها إلى قائدين من قادته كانا يحاربان على جبهتين قريبتين، في يوم 10 سبتمبر/أيلول 1862.
وبينما كانت مجموعة استطلاع صغيرة من الجيش الاتحادي في مهمة استطلاعية، عثرت فجأةً على مظروف، كان المظروف يحتوي على سجائر، وهي مؤونة غالية في ذلك الوقت، استعاد الجنود ابتسامتهم بهذه الغنيمة، لكن أمراً آخر كان مختبئاً في هذا المظروف: رسالتا الجنرال إدوارد لي اللتان تتضمنان خطته!
رغم تسرُّب الخطة.. الاتحاديون تنقصهم القيادة الجيدة!
وصلت الخطة إلى القائد الاتحادي جورج ماكليلان، لكنها لم تغيِّر شيئاً في نتيجة المعركة، فيحكي إريك دروتشميد في كتابه "دور الصدفة والغباء في تغيير مجرى التاريخ"، أن قائد الاتحاديين لم يتعامل بالحسم المتوقع عندما تسربت له المعلومات عن خطة خصمه. يقول إريك دورتشميد إن ماكليلان "تردد ولم يفعل شيئاً. فلم يشكل أية فرقة للاستطلاع، ولم يصدر أية أوامر، ولم يجرؤ أحدٌ من رؤسائه على أن يشور عليه بذلك".
وهنا يقفز مؤلف الكتاب إلى نقطة مهمة، وهو أن هذا الموقف "يُثبت أن جيش الاتحاديين يقوده عدد من الرجال ليسوا أكْفاء كما ينبغي". صحيح أن المعركة أعاقت وصول الانفصاليين إلى واشنطن، ولكن كان ذلك بتكلفةٍ باهظة. فقد سقط من الجيش الاتحادي 12 ألف جريح وقتيل، ومُني الجيش الانفصالي بـ14 ألف جريح وقتيل. والنتيجة النهائية هي أن كلا الطرفين ظل مسيطراً على الأراضي التي كان يسيطر عليها قبل المعركة تقريباً، دون نتيجةٍ تذكر.
أما الغرابة في المعركة، فبدأت بضياع خطة قائد الانفصاليين التي وجدها أحد الضباط الذين يحبون السجائر في معسكرهم بعدما رحلوا، لكن الأغرب أن قائد الجيش الاتحادي لم يتصرف بناءً على المعلومات التي وقعت في يديه بالصدفة.
ليس هذا فحسب، بل إن الأداء القتالي نفسه كان وبالاً على الجيش الاتحادي الأضخم، فالجنرال الشاب الذي يسمونه "نابليون الصغير"، ظل يؤخر قرار دخول قواته الاحتياطية المكونة من 11 ألف فارس، أرض المعركة، حتى كانت جثث جنوده تملأ الوادي.
ولعل أغرب شيء حدث في أرض معركة أنتيتام، هو الخدعة التي قام بها الانفصاليون، فقد سيطروا على أحد أماكن مؤونة الجيش الاتحادي، ومنه سيطروا على معاطف الجنود، ولبسها الجنود الانفصاليون، وعندما اقتربوا من إحدى فرق الجيش الاتحادي، ظنهم الجيش الاتحادي تابعين له، وفي لحظةٍ خاطفة، انهال الانفصاليون عليهم بالرصاص، وأردوا منهم مئات القتلى والجرحى.
وهكذا سجل يوم معركة أنتيتام اليوم الأكثر دمويةً في تاريخ الحرب الأهلية الأمريكية.