ربما لم تعد معركة ديو البحرية ذات شهرة كبيرة رغم ما لها من تأثيرٍ ضخم على مجريات الأمور في العالم كلّه حينها، لكنّها بالطبع كانت الأكثر شهرة في وقتها، فهي التي أنهت سيطرة المسلمين على التجارة القادمة من نصف الكرة الأرضية الشرقي حينها، أي الهند وجنوب شرق آسيا، والتي كانت تصل إلى أوروبا ودول حوض البحر المتوسّط.
كما أسهمت هذه المعركة في انهيار دولة المماليك في مصر والشام، وأنهت التأثير الدولي لمصر، والذي استمرّ طيلة قرنين من الزمان.
دولة المماليك وموازين القوى العالمية في ذلك الوقت
وقعت معركة ديو البحرية عام 1509، بحلول ذلك العام كان قد مرّ أكثر من قرنين على تأسيس دولة المماليك في مصر والشام. كانت تلك الدولة الممتدة من الحدود الجنوبيّة لمصر إلى شرق ليبيا إلى جزيرتي رودس وقبرص في البحر المتوسّط، ثمّ إلى أطراف الأناضول في تركيا الحالية، ثمّ إلى الحجاز واليمن، كانت هي الدولة الإسلامية الأقوى، وإحدى أهمّ وأقوى الدول في العالم.
في سنينها الأولى استطاعت دولة المماليك أن تقضي على الوجود المسيحي الأوروبي، وريث الحملات الصليبية في المشرق الإسلامي، هذا بالتوازي مع كبح جماح الجيش المغولي في معركة عين جالوت، التي قادها سيف الدين قطز أحد مؤسسي دولة المماليك.
وإضافةً إلى وجود الخليفة العباسي في قصره بالقاهرة في صورة تشريفية، وسيطرة المماليك على بلاد الحجاز، أصبحت هذه الدولة الممتدة هي دولة الخلافة الإسلامية. وهكذا أصبحت هي الجهة المنوط بالدولة الأوروبية الحديث معها بخصوص كلّ ما يخصّ المسلمين.
وإضافةً إلى هذه المكانة كان الموقع الجغرافي لدولة المماليك يؤمِّن لها ثورةً هائلة بسبب طرق التجارة التي تمرّ من خلالها التوابل والمنتجات الشرقية إلى أوروبا. وهكذا أصبحت جمهورية البندقية، وهي أهمّ دولة تجارية في أوروبا، حليفةً لدولة المماليك، فبينهما تنسيقٌ لإيصال هذه التجارة إلى أوروبا. وكلاهما مستفيد، المماليك بالضرائب التي تنعش خزينة الدولة، والبندقية بأرباحها الخيالية من تجارتها بين الشرق والغرب.
لكنّ هذا الوضع سرعان ما تخلخل وتغيّرت الأوضاع في نهايات القرن الخامس عشر. فمن جهة كانت دولة المماليك قد بدأت تشيخ وتدخل في مرحلة الصراعات الداخلية وحروبها الأهلية للسيطرة على قلعة الحكم في القاهرة، بينما كانت قوةٌ أوروبية أخرى قد بدأت تهددها، ليس هي فقط، بل تهدد كل التواجد الإسلامي والعربي في جنوب شرق آسيا والهند.
الصعود البرتغالي السريع وصراع النفوذ والسيطرة على البحار
لم تكن أوروبا في ذلك الوقت أوروبا التي نعرفها الآن، فقد كانت عبارة عن إمارات وممالك متفرقة متناحرة فيما بينها. ومن بين هذا التناحر برز اسم البرتغال باعتبارها القوة الملاحية الأقوى في أوروبا، بالإضافة إلى إسبانيا، وهكذا كانت إسبانيا والبرتغال القوتين الكبيرتين في أوروبا، قبل بزوغ نجم بقية الدول الأوروبية الاستعمارية مثل فرنسا وبريطانيا.
اهتمّ البرتغاليون بالملاحة والرحلات البحرية حول العالم، فاكتشف بحَّارتهم طريق رأس الرجاء الصالح الذي غيّر موازين القوّة في العالم في هذه الفترة، فبدلاً من وصول البضائع الآسيوية من خلال مصر والشام، اكتشف البرتغاليون أنّ بوسعهم أن يدوروا بسفنهم حول إفريقيا متّصلين بآسيا، دون الوسيط التقليدي: دولة المماليك.
وهكذا أبحر القرصان البرتغالي فاسكو دي جاما عام 1497، عبر طريق رأس الرجاء الصالح حول قارة إفريقيا وصولاً للهند. وهكذا كانت تلك الرحلة مهددة لطرفين رئيسيين، الأول هو دولة المماليك التي ستنتهي سيطرتها على تلك التجارة، والتي تمثل ضرائبها دخلاً قومياً لها، والطرف الآخر هي البندقية، لأنّ ظهور منافس شرس مثل البرتغال لها في توصيل البضائع الآسيوية إلى أوروبا سيقضي عليها، خصوصاً أنّ هذا المنافس اكتشف طريقه الخاص الذي سيغلق طريق البندقية الذي يكلِّف أكثر عادةً بسبب الضرائب والجمارك لدولة المماليك.
وهكذا، قاد هذا الوضع للمعركة الحاسمة.
ما قبل معركة ديو البحرية.. انتصار مملوكي كبير
بدأت التحرّشات والمناوشات البرتغالية بالمصالح المملوكية في بداية القرن السادس عشر، ففي عام 1501 هاجم الأسطول البرتغالي القوي التجهيز بالمدافع الثقيلة ميناء كاليكوت الهندي، وبعدها بعامين استولى البرتغاليون على سفينة تجارية مملوكية، بل هاجموا أسطولاً مملوكياً صغيراً بعدها. وهكذا بدأ السلطان المملوكي قنصوه الغوري في التحرُّك لاستيعاب أو للقضاء على هذا النفوذ المتزايد للبرتغاليين في البحر الأحمر وبحر العرب والمحيط الهندي.
بدأت الاتصالات تتزايد بين المماليك وحليفتهم البندقية، التي حاولت حثّهم للقاء البرتغاليين في معركة حاسمة للقضاء عليهم، كما بدأ المماليك اتصالاتهم بحلفائهم المسلمين حكّأم الهند. زادت حدّة الهجمات البرتغالية على المماليك، فأرسل السلطان المملوكي قنصوة الغوري حملةً بحرية بقيادة الأمير حسين الكردي، وبدعمٍ بسيط من العثمانيين (بعض المدافع ودعم لوجيستي) وبعض الدعم من البندقية تحرّك الأسطول المملوكي تجاه ميناء عدن.
وفي أواخر عام 1507 تحرّك الكردي في المحيط الهندي ومحيط الموانئ الهندية لكسر شوكة البرتغال، وعلى حين غرّة انتصر الأسطول المملوكي في معركة شاول البحريّة. لم ينتصر المماليك وحسب، وإنّما قُتل قائد الأسطول البرتغالي، وهو ابن نائب الملك البرتغالي على مستعمراته القليلة في الهند.
كان نائب الملك رجلاً شرساً يدعى فرانشيسكو دي ألميدا، وحين علم بمقتل ابنه أقسم على الثأر له، ورغم أنّ ملك البرتغال أرسل قراراً بعزله وتولية شخصٍ آخر، إلا أنّه رفض الانصياع للأوامر وجهّز لمعركةٍ يثأر فيها لابنه الشاب.
كان الانتصار المملوكي كبيراً ورمزياً في آن واحد، لكنّ هذا الانتصار لم يخفِ حقيقة أنّ الأسطول البحري المملوكي ليس متطوراً مقارنةً بنظيره البرتغالي المجهّز بمدفعية ثقيلة، سيكون لها تأثيرها بعد قليل.
وهكذا، خلال شهور كان فرانشيسكو دي ألميدا متجهزاً لحربٍ مع الأسطول البحري المملوكي، وقد تقابل الطرفان في جزيرة ديو القريبة من سواحل الهند، في المحيط الهندي، يوم 3 فبراير/شباط عام 1509. كانت تلك الجزيرة تحت السيطرة الإسلامية، وفي قلاعها مدافع ثقيلة.
كان الأسطول المملوكي أكبر في القطع البحرية، لكنّ الأسطول البرتغالي أقوى وأفضل تسليحاً. وهكذا اعتمد الأمير حسين الكردي استراتيجية القيام بعمليات كر وفر سريعة، لجرّ الأسطول البرتغالي ليقترب من مدفعيّة الجزيرة الثقيلة، لكنّ دي ألميدا قسّم أسطوله لأربعة أقسام، وبدأ هجومه بعيداً عن مدفعية الجزيرة، مركزاً على الأسطول البحري.
واستطاع البرتغاليون بتلك الخطة القضاء على الأسطول المملوكي، بل ومهاجمة سفينة القيادة، ودمِّر الأسطول المملوكي تماماً، وسيطروا على بعضه، ودون كثير خسائر.
قُتل الأسرى المسلمون انتقاماً لمقتل ابن دي ألميدا، وهرب الأمير حسين الكردي بالقوات القليلة المتبقية معه. ولكن كان الأسطول البحري المملوكي قد دمِّر تماماً. كانت الدولة منهكة، وعلى أعتاب الانهيار، وهكذا لم يمضِ أكثر من 8 سنوات حتّى كان السلطان العثماني يسيطر على الدولة المنهكة بعد معركتي مرج دابق عام 1516 و الريدانية عام 1517.
وكانت هذه المعركة هي التي فتحت آفاق السيطرة الأوروبية على الهند وجنوب شرق آسيا، والتي بالتالي أثّرت على العالم الإسلامي بشكل كبير، وقطعت عنه مورداً هاماً من موارد الثراء، بل في النهاية أنهت الحكم الإسلامي للهند، الذي استمرّ أكثر من 3 قرون كاملة.