بالنسبة للأمريكيين، كان دونالد ترامب مرشحاً رئيسياً غير اعتيادي كسر العديد من التابوهات السياسية وتجاهل العديد من الأعراف الدبلوماسية، مثل زعمه المتكرر تزوير الانتخابات الأمريكية، ورفضه في المناظرة الرئاسية الثالثة القول إنه سيقبل بالنتيجة مهما كانت حين وعد: "سأُبقيكم في حالة ترقب"، خصوصاً أن حجة التزوير هذه كانت من ركائز حملته في الانتخابات التمهيدية عام 2016.
تزوير الانتخابات الأمريكية الذي يقصده ترامب ينقسم إلى مستويين، الأول يدور حول انحياز وسائل الإعلام ضده وتأثير ذلك على أصوات الناخبين، والثاني قاله صريحاً بأن الانتخابات قد "تُسرق" منه، وحذر مؤيديه مطالباً إياهم "بمراقبة مراكز الاقتراع".
ترامب يعد أول مرشحٍ رئاسي من حزب كبير يجعل الادعاءات بوجود تزوير منهجي ركيزةً محورية لحملته الانتخابية، وقد مس هذا التوجه تقليداً قديم الأزل في السياسة الأمريكية وهو "الانتقال السلمي للسلطة"، الذي يعود تاريخه إلى أيام تأسيس البلاد.
ما يفعله المرشح الجمهوري الآن بعدم تقبل نتائج مراكز الاقتراع أعاد التذكير بماضٍ كانت سياسته فظةً وصاخبة ومزوّرة في بعض الأحيان. وقد استعرض موقع History الأمريكي تاريخاً موجزاً من تزوير الانتخابات الأمريكية بأشكال أخرى غير رفض أصوات الناخبين.
تزوير الانتخابات الأمريكية بدأ عندما كان الانتخاب بالإكراه وبقوة العضلات
قبل تطبيق ما كان يُعرف بـ"الاقتراع الأسترالي" في ثمانينيات القرن الـ19، كان على المواطن الأمريكي الإفصاح عن اختياره علناً عند التصويت. وكان النظام "الأسترالي"- سُمّي على اسم ممارسة السرية المفروضة في مستعمرة فيكتوريا البريطانية عام 1856- يقوم على تقديم ورقة اقتراع عامة صادرة عن سلطات الانتخابات المحايدة.
ذلك النظام حل محل العالم الانتخابي الفوضوي، حيث كان يتم إنتاج الحملات الانتخابية لأوراق اقتراعها الخاصة بألوان الحزب، ثم يضعها الناخبون داخل صناديق اقتراع زجاجية مستديرة، وكان الناخبون يصطفون للإدلاء بأصواتهم في وجود ممثلي الأحزاب الذين يضغطون عليهم، ويُحاولون إقناعهم، ويرشونهم.
وقتها كان التصويت المخالف للمزاج السائد في دائرتك الانتخابية يتطلّب قدراً من الشجاعة، والقوة الجسمانية عادةً، إذ كان العنف شائعاً، وجزءاً مقبولاً من العملية الانتخابية إلى حدٍ ما. وإذا لم يكُن الناخب قوياً بما فيه الكفاية للدفاع عن مرشحه المختار في مواجهة القليل من الشجار مع الجانب المقابل، فهل سيعتبره المجتمع مواطناً جمهورياً لائقاً؟
إرغام المصوتين على الانتخاب بعد إجبارهم على شرب الكحول
أيضاً كثيراً ما كانت نتائج الانتخابات في القرن الـ19 محل نزاع، أحياناً في المحاكم، وغالب الأحيان من خلال الطعون أمام الهيئة التشريعية ذات الصلة (على مستوى الولاية أو المستوى الفيدرالي)، التي تُشكّل لجان التحقيق في المنازعات بين المرشحين المتنافسين.
جلسات الاستماع التي عقدتها تلك اللجان كشفت عن قصص مذهلة حول المدى الذي قد تصل إليه بعض الحملات. فمثلاً كانت ممارسة "الحبس في القفص"، التي ذاع صيتها بفضل تبنّي الآلة السياسية الخاصة بتنظيم Tammany Hall لها في مدينة نيويورك، تعني استدراج الرجال الراغبين وغير الراغبين إلى قبوٍ قبل يومٍ أو يومين من الانتخابات- وإغراقهم بالكحول والطعام، ثم جرّهم شبه واعين إلى مركز الاقتراع في صباح الانتخابات.
وببراعةٍ أكبر بعض الشيء، كان أعضاء الحزب يُنشئون متجراً يحتوي على برميل ويسكي بجوار مركز الاقتراع مباشرةً، وهي الممارسة التي كانت شائعة لدرجة أنّه تم تصويرها في سلسلةٍ شهيرة من الرسومات لإحدى انتخابات ولاية ميسوري بواسطة جورج كاليب بينغهام في خمسينيات القرن الـ19.
أو بيع الأصوات علناً
وفي مقاطعة آدامز بولاية أوهايا عام 1910، قدّم قاضٍ 1,690 ناخباً (26% من إجمالي الناخبين) إلى المحاكمة وأدانهم بتهمة بيع أصواتهم. وفي المناطق الحضرية خاصةً، كانت العصابات السياسية تستخدم العنف علناً أثناء الانتخابات.
إذ كان إيزايا ريندرز زعيماً سياسياً سيئ السمعة وقائداً لإمباير كلوب في نيويورك خلال أربعينيات وخمسينيات القرن الـ19، وكان يترأس فريقاً مسلحاً من الرجال ضخام الجثة الذين كانوا يُحطمون الاجتماعات السياسية للمعارضين ويجرون دوريات بالقرب من مراكز الاقتراع لردع أيّ شخصٍ لا يُؤيّد مرشحهم.
ولكنّه لم يكن الوحيد، إذ شهدت نيويورك عام 1853 اصطحاب المرشح الديمقراطي للكونغرس جون كيلي "الصادق" (وهو لقبٌ للسخرية) جيشاً من عمال الميناء ورجال الإطفاء المتطوعين إلى مركز اقتراع في يوم الانتخابات، حيث حطم الطاولات ومزّق أوراق اقتراع المعارضين.
تأثير الهجرة على الانتخابات في تاريخ أمريكا
كان كيلي أيرلندياً. وكان الكثير من الحديث حول تزوير الانتخابات- أو مزاعم تزوير الانتخابات- في التاريخ الأمريكي مدفوعاً بالخوف من أنّ جموع "الغرباء" ستسرق الانتخابات. وتماماً كما عبّر ترامب عام 2016 عن الاتهام المنتشر في أوساط اليمين على الإنترنت بأنّ المهاجرين غير الشرعيين يُسمح لهم بالتصويت، وحذّر أنصاره بشدة من التزوير المرتقب وسط مدينة فيلادلفيا (المنطقة التي تضم عدداً كبيراً من الأمريكيين ذوي الأصل الإفريقي)، فقد واجه الأمريكيون في القرن الـ19 وأوائل القرن الـ20 موجات من الذعر حيال انتهاك العملية السياسية بواسطة الغرباء.
ولهذا السبب تتزامن أشد فترات القلق حيال التزوير الانتخابي إما مع التدفق الكبير للمهاجرين أو مع تمديد حقوق التصويت للأمريكيين من أصلٍ إفريقي، أو مع كليهما. وكانت خمسينيات القرن الـ19 فترةً شهدت مستويات مرتفعة من الهجرة، حيث استهدف الديمقراطيون المهاجرين عن عمد منذ اليوم الأول بدخولهم في اتفاقٍ مفيد للطرفين ينص على أن تمنحهم "الآلة السياسية" الوظائف في مقابل الدعم السياسي، لكنّ ذلك خلق غضباً كبيراً حيال الانتخابات "المسروقة" بين الغالبية المولودة في البلاد.
وفي أواخر الستينيات والسبعينيات من القرن الـ19، بعد التحرر وبعد أن حاول التعديل الـ15 للدستور ضمان حق الاقتراع لذوي البشرة السمراء، كانت هناك موجةٌ جديدة من القلق إزاء "الحط من قدر" العملية الانتخابية.
إذ كان يُزعَم أنّ الرجال ذوي البشرة السمراء غير قادرين على ممارسة إصدار الأحكام الصائبة المطلوبة من أجل التصويت في الجمهورية، وكان وجودهم أمام صناديق الاقتراع يُعتبر من وجهة نظر الغالبية في الولايات الجنوبية دليلاً قائماً على تزوير الانتخابات بواسطة "شحاذي اليانكي في الشمال"، الذين كانوا يتلاعبون بسخرية من الأمريكيين ذوي الأصل الإفريقي من أجل الفوز بالانتخابات بطريقةٍ غير شرعية.
تيارٌ رجعي من الخوف
لم نشهد من قبل عصراً رضي فيه الأمريكيون عن نظامهم الانتخابي. إذ كانت الانتخابات السياسية الجماهيرية تأتي دائماً مصحوبةً بتيارٍ من الخوف. ويكمُن في قلب هذا الخوف الإحساس الزاحف بأنّ شفافية النظام هي مجرد خدعة، وأنّ شخصاً ما في مكانٍ ما يتلاعب بالنظام لخداع الشعب "الحقيقي" وسلبه الحكم الشرعي. وعادةً ما ترتبط هذه الاتهامات بالفكرة القائلة إنّ هناك مجموعة من الناخبين الضعفاء والمنساقين بشدة لدرجة أنّهم سيسمحون لأنفسهم بأن يكونوا بيادق في يد وسطاء النفوذ خلف الكواليس.
تعبر الرسوم الكاريكاتيرية في تلك الفترة عن هذه المخاوف، ففي رسم بعنوان "إغواء صوت Soliciting a Vote" من انتخابات عام 1852 ظهر ناخب سيئ الحظ ومغلوب على أمره يتعامل معه أربعة مرشحين للرئاسة بكل خشونة. ولا يُوجد هنا فسادٌ بالمعنى المباشر- إذا لم تظهر الأموال في الأيدي لتغيير رأيه-، ولكن يتجلّى قلقٌ عام من أنّ الانتخابات لن تُحدّد نتيجتها من خلال "القضايا" والتبادل العقلاني النقدي، بل من خلال مزيج الترهيب والرشوة.
لكن رغم هذا لم يستخدم مصطلح التزوير إلا متأخراً
لكن استخدام كلمة "مزورة" لوصف الانتخابات رغم ذلك هو استخدامٌ حديث العهد بعض الشيء. وبقدر ما استطعت البحث، وجدت أنّها لم تُستخدم في القرن الـ19. إذ وصف كُتّاب الصُحف بالفعل مخططات فاسدة "جرى تزويرها" للتأثير على نتائج الانتخابات، لكنّهم لم يستخدموا الكلمة بالمعنى المقصود اليوم. حيث دارت معركةٌ أخرى حول هوية من يحق له التصويت، وكانت هي الدافع وراء إدخال مصطلح "التزوير" على القاموس الانتخابي.
إذ تظاهر الأمريكيون من أصلٍ إفريقي في خمسينيات وستينيات القرن الـ19 بشأن تزوير الانتخابات- والنظام- ضدهم. وردّ السياسي الديمقراطي جورج والاس المؤيّد للفصل العنصري، الذي يُوصف ترشُّح حزبه الثالث للرئاسة عام 1968 على أنّه السابقة لسياسات ترامب، قائلاً إنّ قانون حقوق التصويت لعام 1965 (الذي يضمن حق ذوي البشرة السمراء في التصويت) كان "يُزوّر" العملية الانتخابية ضد البيض.
كما دفع بيرني ساندرز، الذي قاد حملة ترشُّح شعبوية ضد رمز "النظام" هيلاري كلينتون في الانتخابات التمهيدية للحزب الديمقراطي عام 2016، بأنّ النظام "مُزوّر"- رغم أنّه كان يستخدم المصطلح على الأرجح للإشارة إلى النظام الاقتصادي إجمالاً وليس العملية الانتخابية تحديداً.
وعموماً، يعتبر التزوير اتّهاماً سهلاً لأنّه يُستخدم دائماً تقريباً بصيغة المبني للمجهول. ولا يجري عادةً تحديد هوية المسؤول عن التزوير- بل يُترك الفراغ ليملأه المستمعون بأنفسهم.
ولطالما كان موطن ضعف الأنظمة الانتخابية يكمُن دائماً في فكرة أنّ الطرف الخاسر لن يقبل بالنتيجة، فحتى جورج واشنطن كان قلقاً من أنّ الجمهورية المبكرة لن تنجو من سياساتها الفئوية، إذ هل يُمكن للجمهورية الوليدة أن تجمع مصالحها المتباينة بدون السلطة المُلزِمة لرئيس دولةٍ ملكي دائم؟ في عام 1860، كان الطرف الخاسر غير مستعدٍ على الإطلاق للقبول بنتيجة الانتخابات الرئاسية لدرجة أنّه انشق وشكّل اتحاداً كونفيدرالياً منفصلاً (رغم أنّه في هذه الحالة تجدر الإشارة إلى أنّ الجنوبيين لم يُجادلوا على شرعية فوز أبراهام لينكولن بالانتخابات، لكنّ النتيجة لم تُعجبهم فقط).