يُعتقد أن منطقة القرن الإفريقي هي واحدة من المناطق القليلة في العالم التي تعتبر مهد الإنسانية، ويملك القرن الإفريقي أطول سجل زمني للسكن البشري، حيث يعتقد أن سلالة البشرية انطلقت من القرن الإفريقي قبل نحو 2.6 إلى 3 ملايين سنة. صارت إفريقيا ككل محط الانتباه العلمي في العقود الأخيرة عندما توالت اكتشافات عدة في العصر الحجري المبكر مثل: نهر أَوْمَو في جنوب إثيوبيا، والذي صار أقدم حفرية معروفة لجماجم بشرية حديثة، يعود تاريخه إلى ما يقرب من 2.6 إلى 3 ملايين سنة مضت.
وأقدم جينات اكتشفت في المغرب، وتعود الجينات المكتشفة بكهف تافوغالت قرب مدينة بركان (التي تبعد نحو 500 كيلومتر شمال شرقي الرباط) إلى 15 ألف سنة، وكذلك جينات أخرى في مالاوي عمرها 8100، واكتشافات أخرى في شمال إفريقيا، وذلك بعدما عثر علماء آثار في الجزائر على أدوات حجرية مصقولة تعود إلى 2.4 مليون سنة، وعدة اكتشافات عُثر عليها في جنوب إفريقيا وتنزانيا وكينيا، التي تقاس أعمارها بمئات آلاف أو ملايين السنين.
هنا سنُسلط الضوء على بعض أهم الاكتشافات الأثرية التي عُثر عليها في القرن الإفريقي، والتي جذبت انتباه العالم وغيَّرت نظرته تجاه إفريقيا. فعن طريق تلك الاكتشافات حصل علماء الآثار على معلومات أدقّ عن أصل الإنسان وحياته المبكرة من محاور يدوية وكهوف ومواقع أثرية في العصر الحجري المبكر والحديث.
- نهر أومو (2.6- 3 ملايين سنة ق.م)
نهر أومو هو نهر هام في جنوب إثيوبيا، ويصبّ في بحيرة توركانا في الحدود مع كينيا، اشتهر في جميع أنحاء العالم، وأثبتت الأبحاث العلمية أن نهر أومو يساهم بشكل كبير في الدراسات الأثرية والجيولوجية الأنثروبولوجية والبيولوجية والبيئية البارزة، وهو يتمتع بأهمية كبيرة في دراسة التطور البشري. وتم تصنيفه كموقع للتراث العالمي لليونسكو في عام 1980.
وتعد استكشافات نهر أومو دليلاً على أطول سجل زمني للسكن البشري حتى الآن على الإطلاق، حوض نهر أومو بأكمله مهم أيضاً جيولوجياً وأثرياً، إذ تم حفر العديد من الحفريات البشرية والمواقع الأثرية من قبل فريقين دوليين من فرنسا وأمريكا وإيطاليا. كانت الاكتشافات الأثرية الأولى في المنطقة في عام 1901، من قبل بعثة فرنسية، وعثر على أهم الاكتشافات في العصر الحديث، بين عامي 1967 و1975، من قبل فريق دولي مكون من علماء الآثار بقيادة الباحث ريتشارد ليكي، إذ اكتشف هذا الفريق عدداً من العناصر المختلفة، بما في ذلك عظم الفك لرجل من سلالة أسترالوبيثكس (Australopithecus man) يقدر عمره بنحو 2.5 مليون سنة، وشظايا أحفورية من أشباه البشر (fossil fragments of Oldowan) من العصر البليستوسيني وحتى عصر البليوسين.
وتم العثور أيضاً على أدوات الكوارتز مع بعض بقايا الإنسان في ضفاف النهر، قام فريق آخر من علماء الجامعة الوطنية الأسترالية بإعادة زيارة الموقع في عام 2005، وعثروا على أجزاء إضافية من شطايا أحفورية متحجرة، والتي تطابق تلك الموجودة في الأصل.
يعود تاريخ الاكتشافات الجديدة إلى ما يقرب من 1.7 إلى 3 ملايين سنة، وضعت هذه البقايا البشرية في متحف أديس أبابا كشهادة على أن منطقة القرن الإفريقي هي مهد البشرية.
- أقدم الفؤوس اليدوية الحجرية في العصر الحجري القديم المبكر (12000-40000 ق.م)
في عام 1896 اكتشف سيتون كار الفؤوس اليدوية الحجرية في جَالِيلَو، بين ميناء بربرة ومدينة هرجيسا الداخلية، في شمال الصومال، ويعود تاريخ الفؤوس اليدوية الحجرية إلى ما يقرب من 12000 إلى 40.000 سنة.
ووصف سيتون كار اكتشافه فقال: "لقد عثرت على أهم الفؤوس اليدوية الحجرية، فؤوس صنعها رجل عاش في العصر البليوثيكس -العصر الحجري القديم- في القرن الإفريقي، وذلك لأول مرة، على حد علمي، في التاريخ". أكد سيتون كار على أنها تشبه القطعات الأثرية الحجرية التي تم العثور عليها سابقاً من بعض المواقع في فرنسا (أبفيل)، وإنجلترا (هوكسون)، وأطلع سيتون كار كل ما عثر عليه على عالم الآثار جون إيفانز، وفحص إيفانز وفريقه، واتفقوا على أن العثور على هذه الفؤوس اليدوية الحجرية إشارة قوية لوجود إنسان في العصر الحجري القديم المبكر في هذه المنطقة. وضع سيتون كار هذه الفؤوس اليدوية الحجرية الصومالية في بعض المتاحف، بما في ذلك المتحف البريطاني والأسترالي.
- ملاجِئ بُور هَيْبِي الصخرية (12000- 15000 ق.م)
ملاجئ بُوْر هَيْبِ الصخرية أو كَجَلِيس قَبِي (بالصومالية: Gogollis Qabe)، وتعني "المكان المفروش". وهي موقع أثري من العصر الحجري القديم يقع قرب مدينة بيدوا، عاصمة ولاية باي، جنوب غربي الصومال، وعلى ارتفاع 610 أمتار فوق مستوى سطح البحر. اكتشف الموقع لأول مرة في عام 1935 من قِبل عالم الآثار الإيطالي باولو غرازيوني، الذي أشار إلى الملجأ باسم بُوْر هَيْبِ (buur eybe)، وجد غرازيوني تسلسلاً أثرياً للعصري الحجري القديم وقطعات أثرية ونقوشات تعود للعصري الحجري القديم. وبعد 10 سنوات من عمل الأخير، قام عالم الآثار ديزموند كلارك بحفر موقع على بعد نصف كيلومتر تقريباً شمال الموقع، وأطلق عليه جُوْرِي وَابِي (gury waabay)، بمعنى (البيت السام).
وتم اكتشاف مواقع أثرية أخرى قبل التاريخ في المنطقة على شكل مقابر ولوحات صخرية وكهوف مسكونة، وبقايا الهيكل العظمي لـ14 شخصاً دفنوا قبل التاريخ معهم قطعات أثرية مهمة، وتلك تشكل أقدم مدافن في القرن الإفريقي. تقع مواقع الدفن هذه على قمة الجبل، ويزورها سكان المنطقة سنوياً لاعتقادهم أن تلك المقابر لأشخاص مقدسين مجهولين. وبعدما انتشر الإسلام في المنطقة تأثر سكان المنطقة بالثقافة الإسلامية، وتم تحويل مواقع الدفن والمواقع المقدسة إلى مواقع إسلامية.
- مجمع لاَسْ جَيْل (9000-10000 ق.م)
في ديسمبر/كانون الأول 2002، اكتشف فريق فرنسي مكون من علماء الآثار العديد من رسومات الكهوف ومواقع أثرية تعود إلى العصور الحجرية الحديثة في مجمع لاس جيل، على مشارف هرجيسا، والذي يعني (مصدر الماء للإبل). أشار الفريق أن تلك الكهوف تعود إلى ما بين 9000 إلى 10000 قبل الميلاد.
وفي نوفمبر/تشرين الثاني 2003، عاد الفريق إلى لاس جيل، وقام بدراسة مفصلة عن اللوحات والرسومات البديهة ما قبل التاريخ. وعثر الفريق على ما يقرب من 20 ملجأ أو على كهوف مصنوعة من تكوينات صخرية تتشكل بشكل طبيعي وبأحجام مختلفة، تبلغ أطوالها عشرة أمتار، وعمقها حوالي 5 أمتار. توجد داخل هذه الكهوف كوكبة من رسومات الحيوانات والبشر الملونة والمزخرفة وتزين الكهوف، ومن المدهش جداً استخدام رسومات متنوعة الألوان من البني والأحمر والأصفر، وهذا نادراً ما يوجد في الفن الصخري. وكذلك جدران الكهف مغطاة بالكتابات الهيروغليفية القديمة ورسومات معقدة لم يفصل الفريق جيداً في تأويلها. وتشير التقديرات إلى وجود ما يقرب من 350 تمثيلاً حيوانياً وإنسانياً مع قطع أثرية ثمينة تُخبرنا بمعلومات أدق عن الإنسان القديم.
لقد عرف الصوماليون بوجود الكهوف منذ قرون، ولكن كانوا يعتقدون أنها مواقع شريرة محظورة تسكنها الشياطين، كما يقول سكان المنطقة، لكن فيما بعد زالت هذه المعتقدات واعتبروها مواقع أثرية تاريخية.
شمال الصومال بشكل خاص هو موطن للعديد من المواقع الأثرية التي لم تُكتشف بعد، لكن لا حياة لمن تنادي. وهذه الموقع الأثرية مهددة بالخطر، إذ يعاني موقع لاس جيل والمواقع الأخرى في نفس المنطقة من إهمال شديد وغياب الرعاية وأعمال الحفظ والصيانة، ويترك فريسة لارتفاع حرارة الشمس وتسرب مياه الأمطار وارتفاع عدد الزوار.
- موقع طَمْبَلَنْ (5000-3000 ق.م)
طَمْبَلَن هو ملجأ صخري من الحجر الرملي، تم اكتشافه في عام 2007، يقع الموقع الأثري في شمال الصومال، في إقليم تَوْكَطَيْر. عثر ادخل هذا الموقع على بعض من أفضل الرسومات متعددة الألوان في إفريقيا، بما في ذلك رسومات الأبقار والماعز والأغنام والكلاب والثعبان والسلحفاة وثمانية أنواع على الأقل من الزرافات المنقرضة الآن.
ومن المثير للدهشة دقة وجودة الرسومات واستخدام ألوان متعددة لم نعتد عليها في الفن الصخري كما أشرنا على مثيلاتها في مجمع لَاسْ جَيْل. ويوجد في الموقع أيضاً رسومات لبشر معهم القوس والسهام، وكذلك وهم راكبون للحيوانات. هناك رسومات معقدة لم تعرف بعد مثل حيوانات انقرضت تماماً لا يعرفها سكان المنطقة، أو لم تعد موجودة أصلاً. ويعود تاريخ هذه الرسومات لما بين 3000-5000 ق.م.
يشترك الموقع في بعض أوجه التشابه مع الطراز العربي الإثيوبي من العصر الحجري الحديث في القرن الإفريقي، ويلعب موقع طَمْبَلَنْ دوراً رئيسياً في تسليط الضوء على الثقافات الرعوية والرمزية ما قبل التاريخ في الفن الصخري في القرن الإفريقي.
يعتبر القرن الإفريقي من أهم المناطق التي عثر بها على مواقع أثرية مهمة في تاريخ البشرية، ومع ذلك اكتشافات المنطقة قليلة جداً، وتعاني إهمالاً شديداً نظراً لظروفها السياسية والاقتصادية.
كل ما أشرنا إليه هنا هو غيض من فيض، وما خفي أعظم. أرجو مزيداً من الاكتشافات، وأن يُلفت الانتباه إلى تلك المنطقة، وبعدها ربما نحصل على إجابات حاسمة عن مهد الإنسانية وكثير مما نجهل الآن عن حياة الإنسان القديم.
المراجع
- Historical dictionary of Somalia – new edition – by: Mohamed haji mukhtar
(https://www.amazon.com/Historical-Dictionary-Somalia-Dictionaries-Africa/dp/0810843447)
- The Potters of Buur Heybe, Somalia – DVD video .Archaeological Methods & Practice– English -By (author) Steven Brandt.
(https://www.amazon.co.uk/Potters-Somalia-Archaeological-Methods-Practice/dp/1598741187)
- Hillary Mayell, "Oldest Human Fossils Identified." National Geographic.
- Hand axes from Somalia and our African Origin
- Prehistoric Stone Hand Axes from Somalia
- Reference to Prof. M. S. Megalommatis' articles about the historical sources of Somalia's Pre-Islamic History – in karanle.blogspot.
- The prehistoric cultures of the horn of Africa. By: j.d. clark
(https://www.amazon.com/Prehistoric-Cultures-Horn-Africa-Somalilands/dp/1107635365)
- Mire, S. (2008). The Discovery of Dhambalin Rock Art Site, Somaliland. The African Archaeological Review,25(3-4), 153-168.
(https://www.sadamire.com/the-discovery-of-dhambalin-rock-art-site-somaliland/)
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.