على الرغم من أن فترة حكمها كانت وجيزة، إلا أن التاريخ لا يزال يذكر زنوبيا على أنها واحدة من أعظم الملكات على مر التاريخ، فقد جعلت من تدمر قوة عظمى في الشرق الأدنى وألهم صعودها السريع المؤرخين والفنانين والروائيين لعدة قرون.
تعرفوا أكثر على هذه الملكة الاستثنائية:
زنوبيا الفتاة النبيلة التي تجيد 4 لغات
لا يوجد الكثير من المصادر التاريخية الموثوقة التي تتحدث عن بدايات حياة زنوبيا، لكن من المعروف أنها ولدت لعائلة نبيلة يرجح أنها كانت مقربة من العائلة المالكة وذلك غالباً في العام 240 بعد الميلاد.
تلقت زنوبيا تعليماً يليق بمكانتها كسيدة نبيلة، إذ أتقنت أربع لغات هي الآرامية – اللغة المحلية لسكان تدمر – والمصرية واللاتينية واليونانية التي كانت أيضاً شائعة الاستخدام في تدمر آنذاك.
ويقال إنها تلقت تعليماً مبكراً في الإسكندرية، حيث درست تاريخ الإغريق والرومان، وكانت معجبة بشخصية كليوباترا وتحلم بامتلاك المجد والسلطان منذ صغرها.
وإلى جانب جمالها الشديد وفطنتها وحبها للعلوم والفلسفة، تميزت زنوبيا كذلك بالبراعة الشديدة في الصيد الذي كان أحد أبرز هواياتها.
ومن الجدير بالذكر أن أصل اسمها باللغة الآرامية هو بات زباي أي "بنت زباي"، وعرفت اليونانية باسم زنوبيا أما العرب فعرفوها باسم زينب.
زواجها من حاكم تدمر
تزوجت زنوبيا في سن الرابعة عشرة من أوديناثوس حاكم مدينة تدمر وأنجبت منه طفلين هما فابالاثوس وحيران الثاني، وبالرغم من أنها كانت زوجته الثانية إلا أنها كانت المفضلة لديه فقد رافقته في جميع حملاته العسكرية وكانت شريكته في مسائل الحكم الأمر الذي نما لديها خبرة عسكرية ونفوذاً سياسياً.
كان أوديناثوس محارباً شرساً لا يشق له غبار، وتابعاً مخلصاً لروما، فقد ساعد الإمبراطور الروماني فاليريان على إحباط الغزو الفارسي الساساني كما طرد الفرس من معظم الأراضي الرومانية التي احتلوها في العام 260 وأخمد تمرداً ضد الإمبراطورية في الشرق عام 261، وشن غزوة اقتادته إلى أسوار العاصمة الفارسية عام 262
ولشجاعته وإسهاماته العسكرية تلك، مُنح أوديناثوس العديد من الألقاب إضافة إلى سلطة واسعة على المقاطعات الرومانية في الشرق.
ونظراً لأن روما كانت محاصرة بالحرب الأهلية والغزو الفارسي والانحدار الاقتصادي في ذلك الوقت، لم يستطع الإمبراطور فعل شيء حيال تنصيب أوديناثوس نفسه ملكاً على تدمر.
لكن الملك لم يهنأ بملكه مدة طويلة، فقد تم اغتياله مع ابنه من زوجته الأولى حيران الأول أثناء عودتهما من حملة عسكرية في الأناضول.
تزعم بعض المصادر التاريخية أن زنوبيا كانت متورطة في مقتل زوجها وابنه، لكن كان لدى العديد من الجهات دوافع لاغتيال أوديناثوس بما في ذلك كل من الرومان والفرس.
اعتلاؤها عرش تدمر
بعد اغتيال زوجها، اعتلت زنوبيا عرش تدمر كوصية على ابنها الصغير فابالاثوس، وبدأت على الفور بتوطيد سلطتها في الشرق مع الحفاظ على تبعيتها للسلطة الرومانية.
كانت تدمر مدينة متعددة الأعراق فقد ضمت العموريين والآراميين والعرب، كما كانت متعددة اللغات والثقافات نظراً لكونها مسيطرة على خط التجارة الصحراوي لطريق الحرير، ولكون تجارها نشطين في مناطق بعيدة مثل أفغانستان والخليج العربي.
وعلى الرغم من التعدد في الأعراق والثقافات في تدمر استطاعت زنوبيا كسب تأييد كافة فئات شعبها لتبدأ نشاطها التوسعي في الشرق.
وإلى جانب نشاطها العسكري، أولت زنوبيا اهتماماً خاصاً بالبناء وفنون العمارة، وحولت تدمر وبلاطها إلى مركز تعليمي جذب العديد من العلماء والفلاسفة المشهورين.
توسيع سلطتها ومعاملتها للأقليات الدينية
استغلت زنوبيا تشتت الرومان بسبب غزواتهم في أوروبا وبدأت بتوسيع رقعة ملكها فأخضعت سوريا بالكامل تحت سلطانها إلى جانب شمال بلاد ما بين النهرين ومملكة يهودا، كما غزت مصر وتمكنت من السيطرة عليها.
وهكذا شكلت زنوبيا مملكة شاسعة تمتد ما بين أنسيرا، وسط الأناضول، إلى جنوب مصر وقد كانت عاصمتها مدينة أنطاكيا حيث اتخذتها زنوبيا مقراً لحكمها.
ولم تتبع زنوبيا سياسات الرومان في المناطق التي حكمتها، وفتحت بلاطها للنبلاء الشرقيين وبوأتهم مناصب عالية في مملكتها.
كما انتهجت سياسات مختلفة مع الأقليات الدينية التي كانت مضطهدة من الرومان والساسانيين، فاستطاعت بحكمتها استيعاب طبيعة شعبها متعدد الأعراق والديانات، وعاملت رجال الدين باحترام ومنحت الأقليات حقوقهم في إنشاء دور للعبادة خصوصاً اليهود والمسيحيين الذين عانوا من اضطهاد كبير قبل وصول زنوبيا إلى الحكم.
وقد ساعدتها سياساتها تلك بكسب مزيد من الدعم وتوسيع قاعدتها الشعبية.
انفصالها عن الإمبراطورية الرومانية
تشير بعض المصادر إلى أن زنوبيا كانت تسعى لتنصيب ابنها كشريك للإمبراطور الروماني في النصف الشرقي من الإمبراطورية، ويرجح أنها كانت ستتوصل إلى اتفاق مع الإمبراطور الروماني جوثيكوس إلا أنه توفي عام 270 وخلفه الإمبراطور أوريليان الذي اتبع سياسات مختلفة مع تدمر وملكتها.
في البداية قامت زنوبيا بسك عملات معدنية تحمل صور أوريليان كإمبراطور وابنها فابالاثوس كملك، لكنها ما لبثت أن أعلنت انفصالها الرسمي عن الإمبراطورية عام 272 حيث نصبت نفسها إمبراطورة مستقلة.
لكن الإمبراطور الروماني أوريليان لم يتغاض عن ذلك التحدي واستجمع قواته متوجهاً نحو مصر، حيث استطاع استردادها إلى جانب منطقة وسط الأناضول، وتراجعت زنوبيا وأتباعها باتجاه تدمر.
حاصر أوريليان تدمر لفترة طويلة وعندما أوشك على التمكن منها حاولت زنوبيا التسلل خارج المدينة والهروب إلى بلاد فارس حيث كانت تأمل في تشكيل تحالف مع الفرس وإعادة تشكيل جيشها من جديد.
لكن من سوء حظها أن جنود أوريليان استطاعوا الإمساك بها وتم الإعلان بذلك عن استسلام تدمر للرومان بعد حصار مضن دام طويلاً.
نهاية ملكة تدمر
يوجد خلاف تاريخي على نهاية زنوبيا، إذ تذكر بعض المصادر أنها جوعت نفسها حتى الموت بعد أن وقعت في أسر الرومان هي وابنها فابالاثوس.
بينما تذكر مصادر أخرى أنه قد تمت محاكمة ملكة تدمر وابنها في مدينة إميسا السورية بعد اتهامهما بالخيانة ثم تم إعدام أنصار زنوبيا كلهم، بينما تم إرسال زنوبيا وابنها إلى روما حيث أراد الإمبراطور الروماني أن يستعرض انتصاره هناك.
وقيل أن رأسها قطع هناك، بينما ذكرت مصادر أخرى أنها وضعت تحت الإقامة الجبرية في روما لحين وفاتها، وهي الرواية الأكثر ترجيحاً وفقاً لموقع The Collector حيث أن أحفاد زنوبيا كانوا قد اندمجوا في طبقة النبلاء الرومانية وظهروا كأشخاص مؤثرين طوال القرنين الرابع والخامس.
وبغض النظر عن حقيقة موتها، تبقى زنوبيا واحدة من أكثر الملكات شجاعة على مر التاريخ.