بعد مرور ما يزيد عن 100 عام على عرض إنسان من ذوي البشرة السوداء في قفص مع القرود في حديقة حيوان في نيويورك، تعتذر الجمعية المشرفة على الحديقة أخيراً اعتذاراً رسمياً عما فعلته بحق "أوتا بنغا"، الطفل الذي تم اختطافه ممّا يعرف اليوم بجمهورية الكونغو الديمقراطية، واستخدامه كأداة للتسلية في الولايات المتحدة.
تعرّف على قصة "أوتا بنغا"، الشاب الذي لم يحتمل الآلام التي عانى منها، فأطلق النار على نفسه:
أوتا بنغا" الذي خطف على يد مبشر وتاجر رقيق"
في خريف عام 1906، اصطفّت حشود ضخمة في حديقة الحيوانات التي تحمل اسم برونكس بارك في نيويورك، لمشاهدة واحد من أكثر العروض عنصرية في التاريخ.
فقد احتوى القفص الذي تزاحم الزوار حوله على بضعة قرود، وطفلاً ينتمي إلى ما كان يُعرف آنذاك بـ"الكونغو البلجيكية"، ويدعى أوتا بنغا.
كان بنغا يبلغ من العمر 12 أو 13 عاماً عندما تم اختطافه وأسره من قِبل رجل الدين والتاجر الأمريكي صامويل فيرنر في العام 1904.
في البداية كان صامويل يعمل قسّاً مبشّراً في إفريقيا، لكنه استقال من الأعمال التبشيرية، وتوجه نحو تجارة الرقيق، وكان ينتقي الأقزام لبيعهم في المعارض.
لم يكن بنغا الضحية الوحيدة لصاموئيل، لكنه كان الأكثر شهرة، فقد تم نقله من موطنه إلى ميناء نيو أورليانز، ومنه إلى مدينة سانت لويس، ليكون هو و8 من رفاقه جزءاً من معرض الأنثروبولوجيا العالمي الذي يقام هناك.
استمر المعرض حوالي 8 أشهر، عانى فيها بنغا ورفاقه، في ظل عدم وجود مأوى مناسب أو ملابس تقيهم البرد، قبل أن يتم نقل بنغا إلى حديقة برونكس للحيوان في نيويورك.
لم يمتعض سوى قليلين من وجود إنسان في قفص
وضع بنغا في قفص مع القرود، ووفقاً لما ورد في صحيفة The New York Times، فقد وُضعت على باب القفص لافتة تعريفية حوله تقول: "رجل قزم من الكونغو، يدعى أوتا بنغا، يبلغ طوله 4 أقدام و11 بوصة (قرابة 1.2 متر)، ويبلغ وزنه 103 أرطال، وعمره 23 عاماً، يتم عرضه كل يوم خلال شهر سبتمبر (أيلول)".
لم يكن عمر بنغا في الغالب 23 عاماً آنذاك، لكن قد تقديمه على أنه رجل بالغ قزم، وتم تزويده بملابس عصرية، لكن دون حذاء، وكانت عروضه تتضمن استخدام القوس والسهام، والقيام بحركات مضحكة بوجهه.
كما تضمّنت إحدى فقراته صراعاً بالأيدي مع ما أُطلق عليه "إنسان الغاب"، وقد كتبت صحيفة نيويورك تايمز في ذلك الوقت أن "القليل من الزوار فقط قد أعربوا عن امتعاضهم من فكرة وضع إنسان في قفص مع القرود"، لكن ذلك القفص الذي ضم بنغا مع القرود كان آنذاك المشهد الأكثر إثارة للاهتمام في برونكس بارك.
قضيته تثير سخط رجال الدين السود
في حين كان وجود بنغا يجلب أرباحاً لأصحاب حديقة الحيوان، إلا أن عرضه لم يستمر لأكثر من 20 يوماً، فقد أثارت قضيته غضب واستياء رجال الدين ذوي البشرة السمراء.
في البداية لم يُلق رئيس بلدية نيويورك جورج ماكليلان بالاً للأمر، ورفض مقابلة رجال الدين أو دعم قضيتهم، وهنأه على موقفه مدير حديقة الحيوانات، ويليام تمبل هورنادي، الذي كتب إليه قائلاً: " عندما يتم كتابة تاريخ حديقة الحيوان، فإن هذه الحادثة ستشكل أكثر فقراته إمتاعاً".
لكن قضية بنغا سرعان ما تحولت إلى فضيحة تصدّرت عناوين الصحف، الأمر الذي دفع القائمين على حديقة الحيوانات إلى إلغاء عرض بنغا.
لطالما كانت أمنيته العودة إلى الكونغو
أنهى غضب رجال الدين سجن أوتا بنغا، الذي تم نقله إلى ملجأ للأيتام ذوي البشرة السمراء في نيويورك، والذي كان يديره القس الأمريكي الأسود جيمس إتش غوردون، أحد أشهر المدافعين عن بنغا والمناضلين في سبيل استعادته لحريته.
وفي العام 1910، ذهب للعيش في معهد لينشبورغ اللاهوتي للطلاب السود في فرجينيا.
وقد كان بنغا يحلم دائماً بالعودة إلى موطنه، إلا أنه لم يكن يملك تكلفة رحلة العودة، وفي العام 1916 أفادت الأنباء أنه أصيب بالاكتئاب بسبب حنينه لوطنه، وأطلق النار على قلبه بمسدس كان يخفيه، ويعتقد أنه كان يبلغ من العمر حوالي 25 عاماً.
ألهمت قصة بنغا الكتاب والفنانين والموسيقيين، وقد جرت محاولة لاستخراج رفاته من مقبرة في لينشبورغ، فيرجينيا، حيث أمضى السنوات الست الأخيرة من حياته، وإعادتها إلى الكونغو.
إذ يقول منظمو الحملة الداعية لاستخراج رفاته: "كانت هذه أمنيته، إنه يرى العودة إلى الوطن".
أكاذيب رويت لتبرير الحادثة
وفقاً لما ورد في موقع BBC، فقد رويت العديد من الأكاذيب لتبرير العبودية التي كان يتعرض لها بنغا، سواء عندما تم عرضه في معرض سانت لويس أو في حديقة الحيوان.
ولعل أبرز تلك الأكاذيب جاءت على لسان حفيد صامويل فيرنر، الرجل الذي تاجر بالرقيق بعد اختطافهم من موطنهم الأصلي.
فقد ادّعى حفيد فيرنر أن صداقة قوية كانت قد نشأت بين جده وبنغا، وقد أعاد جده بنغا إلى الكونغو كما كان قد وعده مسبقاً، لكن بنغا أصرّ على العودة إلى الولايات المتحدة.
كما كشفت رسالة وُجدت في أرشيف حديقة الحيوانات، أن المسؤولين ناقشوا في أعقاب الانتقادات المتزايدة اختلاق قصة مفادها أن بنغا كان مجرد "موظف" في حديقة الحيوانات له الحرية في الذهاب أينما يشاء، وقد كان يعتني بالقردة والشمبانزي بشكل خاص، لذلك كان دائم التواجد معهم.
وعلى مدى عقود نجحت حيلتهم تلك، إذ تم تداول تلك القصة على نطاق واسع في العديد من الصحف العالمية.
وفي عام 1916، بعد وفاة أوتا بنغا، رفضت مقالة في صحيفة نيويورك تايمز حكاية عرضه في قفص القرود، باعتبارها مجرد أسطورة، وتبنت المقالة الرواية التي تقول إنه كان موظفاً هناك.
مع أن صحيفة نيويورك تايمز وحدها كانت قد نشرت عشرات المقالات حول هذه القضية، وكانت الأولى في 9 سبتمبر/أيلول عام 1906، تحت عنوان: "رجل الأدغال يشارك القفص مع القرود في حديقة حيوان برونكس".
اعتذار تأخر 100 عام
وبعد عقود من التستر على ما حدث للشاب الإفريقي، والانخراط في الترويج لروايات كاذبة أعربت حديقة حيوان برونكس في نيويورك أخيراً عن أسفها بعد سنوات من رفض مسؤوليها الاعتذار، على الرغم من انتشار وثائق رسمية على الإنترت تثبت الحادثة، من بينها رسائل توضح بالتفصيل الأنشطة اليومية لأوتا بنغا والرجال الذين احتجزوه.
وأتى اعتذار جمعية الحفاظ على الحياة البرية التي تدير حديقة الحيوانات عن عرضها لأوتا بنغا عام 1906، في أعقاب الاحتجاجات العالمية التي أثارتها حادثة قيام الشرطة الأمريكية بقتل جورج فلويد، والتي سلطت الضوء مرة أخرى على العنصرية في الولايات المتحدة.
لكنه اعتذار جاء منقوصاً بعد سنوات من المماطلة، ودون اعتراف صارم بكل الأخطاء التي ارتكبتها الجمعية، لذا لا يزال الناشطون ينتظرون اعتذاراً يليق بمؤسسة تعليمية رائدة، ويقترحون تسمية المركز التعليمي للجمعية باسم أوتا بنغا، الذي ارتبطت حياته المأساوية وإرثه ارتباطاً وثيقاً بحديقة حيوان برونكس.