اتسم موقف أفلاطون من الشعر بالتناقض، إذ بدأ حياته بنظم الشعر ثم تحول لدراسة الفلسفة ومعاداة الشعراء؛ خصومة أوصلته لطردهم من جمهوريته باعتبارهم مصدراً مضللاً للمعرفة. قاد أفلاطون الحملة ضد الشعراء ثم عاد للتصالح وفق شروط معينة تتلخص في البعد عن المحسوس والتوجه للعقل.
انتقل صوت الفيلسوف اليوناني إلى أن وصل لقول الكاتب المسرحي الشهير توماس ستيرنز إليوت: "لا شكسبير ولا دانتي قاما بأي تفكير حقيقي".
"إن التوتر الخصب بين الشعر والفلسفة، من الصعب أن ننظر إليه على أنه مشكلة خاصة بتاريخنا القريب أو حديث العهد، لأنه توتر قد صاحب دائماً مسار الفكر الغربي".
– الفيلسوف المعاصر هانز غادامير.
هناك تعريفات أكثر من أن تحصى للفلسفة والشعر، لكن إذا كانت الفلسفة في أبسط تعريفاتها عند اليونانيين القدماء، هي البحث عن الوجود بما هو موجود أي بلوغ الحقيقة. فالشعر نفسه يبدأ بالتفتيش والرغبة في كشف الحياة. والتوتر المتجذر في تاريخ الفلسفة والشعر، يحل لوجود علاقة ما بينهما. فما طبيعة تلك العلاقة؟ وهل هناك أرض تجمعهما؟ بصيغة أخرى، هل هناك تلاقي بين ماهية الشعر والفلسفة؟
"الفكر والشعر ليسا خصمين، وإنما هما رفيقان على درب واحد، فغايتهما واحدة، وإن اختلفت بهما السبل".
– الفيلسوف الأمريكي إروين إدمان
اللغة هي البذرة التي تزرع في أرض واحدة؛ فتنبت ثماراً مختلفة إحداها الفلسفة والأخرى الشعر. والجذور الممتدة في باطن التربة هي الفكر، الأداة الأولى للإنسان حين أراد استكشاف الظواهر حوله. تبدأ العملية بالدهشة، ثم محاولة الفهم، استنباط المفاهيم ومن ثم صبها في قوالب. وتلك القوالب هي الثمار المختلفة التي تنبت في الأرض المشتركة.
تعتمد الفلسفة على مخاطبة العقل، سبر أغوار الظواهر المحيطة، استجداء البراهين والأدلة إلى أن نصل إلى نتيجة منطقية. ولا تتخذ خطاباً يمسّ المشاعر الإنسانية، بل تتوجه البوصلة إلى المنطق. بينما يُفَعِل الشعر ملكة المحاكاة، يعكس الواقع بالرموز والإشارات، يرتمي في أحضان الاستعارة والكناية ويتوارى خلف صورة خيالية تمسّ الوجدان وتتصل بالمشاعر دون تقديم تبريرات وحجج منطقية.
يمكن أن نقول إن الشاعر يقطع الشجرة كما يفعل الفيلسوف لكن الأول يصنع منها شيئاً يبعث في النفس مشاعر نابعة من رؤية الشاعر للعالم، حُب الوطن، التغني بالمحبوبة، البكاء على الأطلال. بينما يقدم الفيلسوف تفسيراً لما يكتبه الشاعر، فالأخير اتخذ وسيلة تختلف عن الأخرى في بلوغ غايته، كما حالنا الآن حين نسافر قد يرى أحد في القطار الذي يقف عن كل محطة يحللها، يفسر تحرك الناس في المحطة إلى أن يبلغ غايته، بينما الآخر سافر العربة متوجهاً صوب مراده مباشرةً.
يجتمع الشاعر والفيلسوف على رفض أن يكونا فرداً مجرداً، إذ يطمح كلاهما إلى بلوغ "الكلية والقمة"، يتوجه كلامها صوب المكان ذاته، لكن ما اختلف هو المسار. أراد الأخير تفسير الكون بعينه عن طريق لغة تحلل الأثر، بينما الأول وصف ما مسّه الأثر في نفسه، فكانت نبرته متفردة، يختلف وقع ضربها في الأذن على الآخرين، لكنها تنطلق في الهواء كموسيقى تُخلق من الكمان لكنها تشترك مع البيانو والطبل والناي في أن جميعهم موسيقى؛ إذ تصبح نبرة الفرد تعبيراً عن باقي المجموعة.
إذاً ما اختلف هنا هو الأسلوب، تقاطع الذهن وملامحه واحد يعتمد في البداية على الفكر، ومن ثم يصب قوالب مختلفة اتخذها الكاتب، الذي هو شاعر أو فيلسوف للتعبير عن ذاته. الأول يرتدي قناع المجازات وخلق صور خيالية، بينما الأخير ألقى بالقناع وتحدث أمام الجميع بوجهه ونبرته الخاصة. يرى الفيلسوف في النثر أداة للتعبير عن مراده، تشمل عناصر تتعلق بالشكل والمضمون كما يجب أن يتسم الشاعر بتلك الخواص، لكنه لا يحتاج لوضوح ومباشرة الفيلسوف أكثر من حاجته للابتكار والخلق والاهتمام بالناحية الانفعالية والحسية. أي أن كليهما يحتاج للفن الذي يتعلق بالشكل وابتكار صور جمالية قوية، والفكر الذي يرتبط بموضوع النص الشعري أو الخطاب الفلسفي.
"إن الشعر إنشاء وتأسيس بواسطة الكلام، والكلام تأسيس لما هو باقٍ، واستمراره والكشف عن الموجود حتى يتجلى الوجود. فالشعر تأسيس للوجود عن طريق الكلام. وكما قال هودرلين: "إن الشعراء ينشئون ما هو باقٍ". – الفيلسوف الألماني مارتن هايدغر.
رأى هيغل أن للشعر قدرة تعبيرية لا تقتصر على الذات الداخلية للإنسان فقط، بل تشمل الحياة الخارجية بصورة أقرب للكمال، لكنها أدنى إلى الاستيعاب، تماماً كحال الرسم والموسيقى، فن تركيبي لأنه يعكس ما يشعر به الفرد ويحلل العالم لأنه يصف مفرداته الواحدة بجانب الأخرى، متكلاً على قوة الخيال.
بالنسبة لهايدغر، تحدث عن الشعر من خلال دراسة بحثية للشعر هودرلين، لكنه وصفه بالمعنى الواسع، إذ لم يقتصر على ممارسة النظم الشعري أو فن القصيدة، بل حلله بوصفه خبرة ممارسة التفكير؛ السمة المتماثلة في كل الفنون.
وبالتأكيد هناك اختلافات، فإذا لم يكن هناك تعارض لما أثار الفارق بين الفلسفة والشعر سجالات منذ عصر الفلاسفة اليونانيين. يقول أحد النقاد: "إذا كان عليّ، حتى أتابع فكرة الشاعر، أن أبذل نفس الجهد الذي أبذله حين أتابع نظرية من نظريات كانط، فلماذا لا أقرأ كانط نفسه".
وفي هذا يمكن أن نقول إن الشاعر يلتمس جمال اللغة، بينما يهرول الفيلسوف خلف الفكر فقط؛ فيرى الفيلسوف الإنجليزي روبن كولنجوود أن أساسات بناية الشاعر والفيلسوف واحدة، لكن الأخير اختار النثر والأول فضل الإيحاء، الذي لا يقتصر على الصورة الجمالية فقط بل يحمل أيضاً فاعلية دلالية.
تعتمد الفلسفة على التأويل الدائم للنص، بالمعنى الهرمينوطيقي؛ فتعتمد على محيط الشعر لاصطياد ما يفسر الوجود، وتمثل إرادة المعرفة الأرض المشتركة التي تنبت جذور الشعر والفلسفة في باطنها. يتجول الفيلسوف في الأرض بحذاء خاص، إذا بلي فتش عن حذاء شاعر، ولا ضرر أن يرتديه ويكمل المسيرة به، إن كان يناسبه.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.