يحيي يابانيون مسلمون اليوم الذكرى السنوية الـ76 لوفاة الرحالة التركي عبدالرشيد أفندي، الذي بذل جهوداً كبيرة في نشر الإسلام، تحديداً في اليابان التي دخل الإسلام فيها على يديه بعد رحلته هناك وإتقانه اللغة اليابانية ونشره مقالاتٍ في الصحف هناك.
ويمكننا تعريف عبدالرشيد إبراهيم أفندي باعتباره رحّالة كتب لنا عن مشاهداته في اليابان بدايات القرن الماضي. وإن كانت رحلته إلى اليابان هي الأشهر إلّا أنّها لم تكن الوحيدة، فقد رحل عبدالرشيد إلى البلاد الإسلامية الآسيوية، ونشر انطباعاته في مجلدين بعنوان "العالم الإسلامي"، قبل أن يصل اليابان عام 1900.
عبدالرشيد إبراهيم.. المسلم الروسي التركي
من المعلومات المثيرة أنّ عبدالرشيد إبراهيم أفندي قد ولد عام 1857 في مدينة أومسك في منطقة سيبيريا الروسية لعائلةٍ تركيةٍ من التتار.
ومن المعلوم أنّ الإمبراطورية الروسية في ذلك الوقت هي أحد الأعداء اللدودين للدولة العثمانية. وقد بدأ إبراهيم يتلقّى التعليم في مدرسةٍ دينية إسلامية عندما بلغ سن السابعة، لكنّ القدر لم يمهله ففقد والدته ووالده وهو في سنّ 14-15 عاماً، ما أدى إلى نشوئه وترعرعه في إحدى دور الأيتام.
أصبح عبدالرشيد إبراهيم إماماً في محافظة "أقمولا" بتركستان الغربية عام 1879 (حيث تقع اليوم العاصمة الكازاخية نور سلطان). وما لبث أن جاء إلى إسطنبول خلال رحلته إلى المدينة المنورة بمساعدة قروي ثري أراد له أن يواصل تعليمه في الأراضي الإسلامية المقدّسة.
وصل عبدالرشيد إلى المدينة المنورة عام 1880، وتلقَّى فيها تعليماً في العلوم الإسلامية لمدة أربع سنوات. وعاد إلى مسقط رأسه عام 1885، بعد أن التقَى في إسطنبول مع العديد من الأعلام الفكرية في ذلك العصر، مثل أحمد وفيق باشا، ومعلم ناجي، وإسماعيل حقي الإزميري.
وفي نفس العام، تزوَّج إبراهيم في مسقط رأسه ثمّ غادر بعدها إلى إسطنبول مرَّة أخرى والتقى في تلك المرة مع وزير المعارف (التربية والتعليم) في الدولة العثمانية وقتها، منيف باشا.
ومع اندماجه في إسطنبول ونخبتها الثقافية والدينية كان عبدالرشيد إبراهيم يواظب على نشر سلسلة مقالات في صحيفة "عمران" التي كانت تصدر في إسطنبول بعنوان "مستقبل المسلمين في روسيا"، ونجح في جذب العديد من الطلاب إلى إسطنبول، من خلال مدرسة افتتحها في مسقط رأسه.
كان السبب في هجرة المسلمين من روسيا القيصرية إلى الأناضول العثمانية
في عام 1891 نجح إبراهيم في اختبارات اللغة الروسية قبل أن يتمّ تعيينه من قبل "جمعية أورينبورغ الإسلامية" قاضياً شرعياً عام 1892، ثم رئيساً للمحكمة الشرعية في مدينة أورينبورغ الروسية، التي كان معظم سكانها من المسلمين التتار.
وخلال 8 أشهر قضاها في منصبه، أسس إبراهيم العديد من جمعيات دعم الفقراء ودور الأيتام، قبل أن يسافر إلى عاصمة روسيا القيصرية، سانت بطرسبرغ، ليلتقى مع وزيري الداخلية والتعليم في محاولةٍ لإيجاد حل لمشاكل المسلمين.
وبعد فشل جهوده في سانت بطرسبرغ، عاد إبراهيم إلى إسطنبول مرةً أخرى بعد استقالته من رئاسة المحكمة الشرعية في أورينبورغ، ونشر كتاباً حمل عنوان "رسائل اللواء الحميدي". واستكمل نشر أفكاره بين مسلمي روسيا، داعياً الأتراك المضطهدين في روسيا القيصرية للهجرة إلى أراضي الأناضول العثمانيّة.
كما ساهم إبراهيم في نقل أخبار الظروف السياسية والاجتماعية الصعبة التي يواجهها المسلمون في روسيا لكبار المثقفين في الدولة العثمانية، وساهم في توفير السبل الآمنة لهجرة نحو 70 ألف مسلم تركستاني (أتراك آسيا الوسطى) إلى الأناضول.
رحلة حول العالم ثم الاستقرار في اليابان
غادر عبدالرشيد إبراهيم – الذي كان يكسب رزقه من الزراعة – إلى أوروبا عام 1896 لإيصال معاناة المسلمين في روسيا القيصرية إلى المحافل الأوروبيّة. فبعد مغادرته إسطنبول عام 1897، زار إبراهيم كلاً من فلسطين والحجاز ومصر، ثم سافر إلى إيطاليا والنمسا وفرنسا وبلغاريا ويوغوسلافيا وروسيا الغربية.
كما زار إبراهيم أيضاً بلاد القوقاز، وبلاد ما وراء النهر، وتركستان الغربية والشرقية، وسيبيريا، حتى وصل إلى اليابان لأول مرة عام 1900. ومن هنا بدأ دخول الإسلام اليابان.
وبعد إجرائه مجموعة من اللقاءات في اليابان، عاد إبراهيم إلى سانت بطرسبرغ، حيث نشر أعداداً من مجلة "مراد" قبل عودته إلى اليابان مرة ثانية عام 1902. وبعد وصوله إلى اليابان في رحلته الثانية، طلبت السفارة الروسية من الحكومة اليابانية ترحيله خارج البلاد.
وقد أتقن إبراهيم عدّة لغات، فإضافةً إلى التركية كان يتقن العربية والفارسية والروسية، وهذا بالطبع مكنه من تجميع أكبر قدر من المعلومات عن المدن والدول التي زارها. كما أنّه تعلّم اللغة اليابانية في طوكيو ونشر مقالاتٍ في الصحافة اليابانية.
دخول الإسلام إلى اليابان كان على يديه
خلال إقامته في اليابان، عكف إبراهيم أفندي على دراسة أصول ومناهج التعليم في اليابان، وشارك في احتفالات المدارس اليابانية كما زار عدداً كبيراً من المدارس المهنية.
وبدأ في التواصل مع شخصيات من مختلف شرائح المجتمع الياباني، كما التقى الأمير الياباني الشهير "إيتو هيروبومي" الذي كان من كبار رجال السياسة في اليابان. وبدأ من خلال علاقاته ومقالاته التعريف بالإسلام ونشره بين محاوريه.
ونتيجةً لتلك الجهود اعتنق عدد كبير من الشخصيات في اليابان الدين الإسلامي، قبل أن توقف الحكومة اليابانية أنشطته بناءً على طلبٍ من روسيا القيصرية.
غادر إبراهيم أفندي اليابان منتقلاً إلى الدولة العثمانية، قبل أن تسمح له السلطات الروسية بالعودة إلى سانت بطرسبرغ، بفعل الضغط الشعبي للمسلمين في روسيا. وقد سُجن في أوديسا سنة 1904.
أسس عبدالرشيد إبراهيم أفندي لاحقاً مطبعةً في سانت بطرسبرغ، ونشر مجلة حملت اسم "ألفت"، بهدف توحيد صفوف الشعوب التركية المنضوية تحت حكم روسيا القيصرية.
وأثار انتصار اليابان في حرب عام 1905 على روسيا القيصرية ضجّةً داخل المجتمعات الإسلامية التي حرمت من التعبير بحرية عن هويتها تحت السيطرة الروسية. وفي هذه الفترة، نشر إبراهيم أفندي كتابه "العالم الإسلامي"، الذي تضمن ملاحظاته عن أسفاره، وقدم في الكتاب شرحاً عن القيم الأخلاقية اليابانية وأسرار نهضة اليابان.
ومن خلال كتبه – مثل "العالم الإسلامي" و"انتشار الإسلام في اليابان" – أنشأ عبدالرشيد إبراهيم أفندي جسراً بين العالم الإسلامي واليابان. وتعتبر كتبه أولى الدراسات الجادة عن اليابان في الدولة العثمانية.
وقد أسس إبراهيم أفندي في اليابان جمعية "آسيا جيكاي" لتوحيد المسلمين في الشرق الأقصى وتعزيز انتشار الإسلام في اليابان، وضمت الجميعة شخصيات من النخبة المثقفة اليابانية، عملت فيما بعد على تحقيق حلم عبدالرشيد إبراهيم في تأسيس مسجد في طوكيو.
ثمّ غادر إبراهيم طوكيو عام 1909 متوجهاً إلى كوريا، مؤجلاً حلم مسجد طوكيو بقرارٍ مفاجئ، بعد خلع السلطان عبدالحميد الثاني من السلطنة عام 1909.
وبعد عودته إلى إسطنبول التقى عام 1910 بمثقفين من تلك الفترة، مثل شاعر الاستقلال محمد عاكف أرصوي، وأطلَعَ الشعب العثماني على انتشار الإسلام في اليابان ومعلوماتٍ حول الجالية المسلمة هناك.
في النهاية استقر إبراهيم أفندي في مدينة قونية خلال السنوات الأولى للجمهورية التركية الحديثة، التي حلت محل الإمبراطورية العثمانية بعد الحرب العالمية الأولى، حيث عاش حياةً منعزلة، قبل عودته مجدداً إلى اليابان.
بدأ إبراهيم أفندي في بناء مسجد طوكيو عام 1934، في موقع مسجد طوكيو اليوم، بمساعدة أبناء الجالية المسلمة في اليابان، بعد أن أخذ المهندس المعماري الياباني يوشيموتو على عاتقه تصميم بناء المسجد. وأكمل إبراهيم أفندي تشييد المسجد عام 1938 وتم انتخابه أول إمام لمسجد طوكيو، الذي جرى افتتاحه بحضور ممثلين من دول إسلامية ورجال دولة يابانيين، وقد شغل هذا المنصب حتى وفاته.
ويمثِّل مسجد طوكيو الذي طالما شكل حلماً لإبراهيم أفندي المتوفى في طوكيو يوم 17 أغسطس/ آب 1944، رمزاً للمجتمعات الإسلامية في اليابان، التي لا تزال تحيي كل عام ذكرى وفاته بكثير من الإجلال والتقدير لجهوده في نشر الإسلام ومد جسور التعاون بين العالم الإسلامي واليابان.