أثناء مناقشة فكرة المقال مع الزميلة المسؤولة في الموقع وقفنا أمام معضلةٍ كبيرة: كيف نعرض للجمهور نماذج من الرواية الأخيرة لأحمد مراد؟ في الحقيقةِ لم نصل إلى حلٍّ تقريباً، ووجدنا أن من الأفضل الاعتذار للجمهور الكريم وللقارئ الطيب عن إرفاق نماذج من صفحات "لوكاندة بيت الوطاويط" الصادرة قبل أيام عن دار الشروق، وذلك لما فيها من مخالفةٍ للسياسة التحريرية للمؤسسة الصحفية التي لا تستطيع عرض محتوى إباحي مهما كان الموضوع مهماً، وثانياً لأنني أشفق على صديقي القارئ من التلوث البصري، ومن خدش حيائه بكلمات لم يستحِ كاتبُها، فرأيتُ أنه على الأقل يجب أن يستحي أحد ما، وقبلتُ أن أكون أنا وأنت ذلك الشخص يا صديقي العزيز.
تعودنا حين ينتقد أي شخصٍ أي شيء، أن نسأله أولاً: هل رأيته؟ هل شاهدته؟ هل قرأته؟ هل سمعتها؟ لكنني أحب هذه المرة أن أخالف تلك القاعدة في النقد، وأعترف بأنني لم أقرأ العمل، وأنني أشرع في الحديث عنه دون رؤيته، والسبب يا سيدي القارئ أنني رأيت عيّناتٍ دفعتني إلى عدم إتمام القراءة، ولو كان المحتوى في يدي لم أكن لألقيه في أقرب صفيحة قمامة، لأن صندوق القمامة ينقسم إلى قمامة عضوية، ومواد معدنية، ومواد ورقية وبلاستيكية، والحقيقة أنهم لم يأخذوا في الحسبان إنشاء خانة للقمامة الأدبية، والتي كانت لتمتلئ بجدارة برواية أحمد مراد، وعدد غير قليل من روايات أخرى وأعمال "أدبية"، لكن نظراً لأن الناشر دار الشروق التي طبعت العمل بأعداد كبيرة، فإن الصدارة ستكون له.
منذ زمنٍ طويل، ومع بروز الأدب، وتشكل فنونه، ووصولاً إلى آخرها، وهو فن الرواية، أبدع الإنسان في استخدام اللغة وتطويع الخيال وتسخير الواقع ليكتب ما يستطيع به سكب خبراته في كتاب، أو تغيير العالم في رواية، أو حتى تغيير نفوس الناس وحالاتهم المزاجية ولو لبضع ساعات أثناء قراءة صفحات العمل.
ونجد الأدب على مر العصور قيّماً. حتى وإن لم يحمل رسالة معينة في بعض الأحيان فإنه كان ملتزماً بتوافر مقومات الفن فيه؛ من رقيٍّ يسمو بنفس القارئ، ورفعةٍ في استخدام اللغة، وقوةٍ في استعمال الألفاظ، ودقةٍ في وصف الشعور، وسهولة ممتنعةٍ في إخراج العمل ككل.
لكننا على الجانب الآخر نجد أعمالاً تندرج تحت اسم الأعمال الأدبية، ليس لأنها تستحق ذلك، وإنما لأن الناشر قرر ذلك، مقتنعاً بأنصاف الموهوبين وأشباه الكُتّاب، ونجد في هذه الأعمال رُخصاً غير طبيعي، في استخدام الألفاظ أو عرض القضايا، وذلك بالطبع لأن الأستاذ كاتب، ومعلوم بالضرورة أن الكاتب حر في اختياراته، فيمكنه عرض مشهد جنسي بأدق التفاصيل، غير مختلفٍ عن أي موقع إباحي إلا في أنه يترك للقارئ فسحة أكبر في اختيار طرفي ذلك المشهد، ويمكنه إيراد ألفاظ فجة لا تليق بمقام الورقة والقلم، ولا تسمعها إلا في أماكن شاذة عن الأصل، ولا تجدها إلا من أشخاص لا يستحون. بل حتى حين يقولها هؤلاء الأشخاص الذين نعيب عليهم ألفاظهم، فإنهم يستحون أن يمارسوا عيبهم أمام امرأة تمر بالصدفة، ويتوقفون عن ذلك أيضاً إذا رأوا طفلاً أو شيخاً، محتفظين بحقهم في قلة الأدب لكن تحت شروط معينة.
أما بدعوى الفنّ والحرية، سنجد الكاتب القدير لا يملك واحداً من الأصول التي تجدها عند سائق متهور سليط اللسان، أو ذرة واحدة من حياء إنسانٍ قليل الأدب بطبعه، يعني حتى أولئك الذين نجدهم في قاع الأخلاق ومستنقع التعبير، لم يصلوا أبداً إلى قاع أبعد من الذي وصل إليه الكاتب المثقف، وبالطبع نقول إنه كاتب مثقف وفقاً لمفهوم الثقافة عند النخبة، الذين يعبرون عنها بالحديث المنحط عن المرأة والكلام المفتوح عن الجنس واستخدام السب والقذف والشتيمة في سطورهم بلا استحياء أو رقابة، من منطلق الحرية المطلقة.
وعلى الرغم من ادعائهم أن الكتابة والفن عموماً لا يجب أن يخضع للأخلاق، فإننا نجد أساتذة الأدب الذين تركوا لنا ميراثاً ضخماً من أعمالهم، لم يخرجوا على النص أبداً، ولم يستخدموا لفظة واحدة مما يستخدمها كُتاب اليوم، الذين يقرنون الكتابة بالويسكي، ويربطون الثقافة بالجنس، ولا يعرفون عن الحرية إلا حرية أن تكون سافلاً. فإن كانت الكتابة الحقيقية تعني التحرر التام من الدين والعرف والأخلاق، فلماذا لم يلجأ لذلك أساتذة الأدب على مر العصور؟
ويمكنك بينما تقرأ المقال أن تلتقط أقرب كتاب لأحد أدبائنا القدامى النوابغ، باحثاً في سطوره عن لفظ خارج، أو صورةٍ منحطة، أو أوصاف مبالغ فيها، وأجزم لك أنك لن تصل إلى شيء من ذلك، إلا نادراً وفي حدود ضيقة جداً، وهذا ليس من حذف الرقابة، فالرقابة عندهم كانت أقوى مليون مرةٍ من الرقابة الآن، وإنما لأنهم لم يوردوا تلك الكلمات أصلاً، مع أنهم كانوا كتاباً حقيقيين، وأدباءً أحراراً، ورُواداً للثقافة.
والحقيقة أنهم كانوا مع ذلك كله يدركون قيم المجتمع، وأخلاقياته التي لا تتجزأ عنه ولا تنفصل عن كيانه المتماسك، وكانوا يقدمون بأدبهم ما ينقل الواقع للقارئ، أو ما ينقل الواقع للأعلى، فيرتقي بعقل المتلقّي وقلبه، غير مستهينٍ به، وغير خادشٍ لحيائه، مع بذله كل البذل في احترام جمهوره الكريم، والاعتذار منه إذا اضطر إلى إيراد أي شيء قد يخدش الحياء بأي درجة.
ومما تقدم نستنتج أن قلة الأدب لا تصنع أديباً فذاً، والأديب الفذ لا يصنع قلة الأدب، وأن الأدب هو ما كان أدباً بكل ما تحمله الكلمة من معانٍ مختلفة.
إذَن، فما العلاقة يا سيد مُراد؟ ما الدافع إلى ذكر المؤخرة بلفظتها السوقية بين دفتي كتاب؟ وما الدافع إلى وضع أعضاء المرأة بمسمياتها التي لا ترد إلا في سهرات جنسية بحتة لا تمتّ إلى الكتابة بِصِلة؟ وما الدافع إلى استخدام شتائم لا ترِد إلا من إنسانٍ وقِح؟ وما الدافع إلى سبابٍ لا يقال إلا في قعدات خاصة بين أصدقاء يعرضون جانبهم القذر؟ وما الدافع إلى إيراد أمثلة أو عبارات يمكنك سماعها بقوةٍ في حاراتٍ تفوح منها رائحة الخمرة؟ وكيف آمَن أختي وأمي أن تقرأ إحداهن روايتك دون أن تُجرح مشاعرها ويخدش حياؤها وتتلوث عينها ويُترك في نفسها أثر لا يزول ولو بالطبل البلدي، فبعض البقَع تفسد الثوب الجميل ولا تزول أبداً، وتنقل القطعة الثمينة من تزيين البدن إلى إزالة الأوساخ في المطبخ، وهنا لا أقصد أن روايتك مليئة بالبقع، ولا أنها تحولت إلى خرقةٍ بالية، فالخرقة البالية يمكنها التكفير عن ذنبها بإزالة الأوساخ، أما روايتك؟
وهنا نجد مقاماً جديراً بالوقوف عنده، والبكاء على أطلال الأدب المحترم، وعلى الزمن الجميل، وعلى الفن القدير، وعلى الكتاب الآباء، الذين نستطيع أن نوصي أهلنا بما فيهم من سيدات وفتيات وأطفال ومراهقين بالقراءة لهم، دون أن نخشى عليهم من التعثر بقاذوراتٍ يعج بها الكِتاب أو الرواية.
والعيب كذلك على الدور التي تدّعي أنها تحمل على عاتقها مهمة الثقافة، وأنها تسعى للتنوير، وأنها وأنها، هذا ما زرعتموه وذلك ما حصدنا أمامكم، منتجات رديئة لا تصلح لِأن تقف ساعةً على رفِّ مكتبة، بل إنها إهانةٌ للورقة وللقلم، وإهانةٌ لملكة سامية اسمها الكتابة، ولنوعٍ ثمين اسمه الرواية، ولجمهورٍ كريم يستحق بكل تأكيد أعمالاً أفضل من روايةٍ يلعق فيها البطل -والكاتب- ال…. وال….
ورسالة مختصرة للكُتاب الجدد، والجيل المنبهر بالفطرة بكل من هب ودب، أقول أرجوكم، اقرؤوا القديم وابنوا على أساسه معاييركم، وزِنوا الأعمال حسب غناها وثرائها لا صيت كاتبها، واستفتوا قلوبكم ودينكم وأخلاقكم وعُرفكم، وقيسوا الحرية حسب كرامتكم بها، لا حسب التحرر من أصلكم كذلك، فماذا يجني الحر من حريته لو كان في الأصل بلا أصل؟ وهل يصير لحم الخنزير حلالاً إذا ذبحناه ونحن نقول بسم الله الله أكبر؟
ورسالة أخيرة إلى كل كاتبٍ رخيص: في كل زمنٍ مثلك الكثيرون، يخورون، لكنهم ينتهون دون شيء يذكر، لأن الخوار ينتهي بموت البهيم الذي يصدره، أما صرير الأقلام، يظل صداه بعد موت كاتبه إلى الأبد، ولنا في الحاضر عبرة، انظر كم أديباً ما زال معنا أدبه ويحيا بيننا قلمه، بينما كم أديباً كان في زمانهم؟ هذه سنة الله في الزمان: "أما الزبد فيذهب جُفاءً، وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض".
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.