مما لا شك فيه أن المفكر العظيم أو الفيلسوف هو مَن يوقف حياته الفكرية تحليلاً لواقع الحياة ومشكلات مجتمعه بحثاً عن حلول ملائمة لتلك المشكلات، وأملاً في تحقيق حياة أفضل له ولمجتمعه. وتلك المهمة هي التي تفصل بين الفيلسوف وغيره من البشر. كما أنه لا أحد أقدر على القيام بتلك المهمة سوى المفكرين والفلاسفة، هم وحدهم، دون غيرهم، الذين يقع على عاتقهم إنجاز تلك المهمة الصعبة، وانطلاقاً من ذلك فإن المفكر أو الفيلسوف هو من بيده أن يكتب لنفسه ولأفكاره الخلود حتى وإن رحل عن الحياة، كما بقدرته أن يختار لأفكاره الفناء وهو مازال على قيد الحياة. إلا أن الخلود لا يتحقق إلا إذا كان المفكر أو الفيلسوف مدركاً ومقدراً لحجم المسؤولية التي تقع على عاتقه.
وإذا كنت بصدد الحديث عن مهمات المفكرين والفلاسفة، فلن أجد أفضل من الدكتور زكي نجيب محمود، ليكون خير مثال للفيلسوف والمفكر العظيم.
نبذة عن الفيلسوف
زكي نجيب محمود، هو مفكر وفيلسوف مصري. عاش في الفترة ما بين 1 فبراير/شباط 1905 و8 سبتمبر/أيلول 1993. وهو ابن قرية ميت الخولي التابعة لمحافظة دمياط وقد حصل على درجة الدكتوراه في الفلسفة من لندن وعُين مستشاراً ثقافياً للسفارة المصرية في واشنطن وعضواً في المجلس القومي للثقافة.
وقد وصف الدكتور زكي نجيب محمود بـ"فيلسوف الأدباء" وذلك لنجاحه في تقديم أصعب وأغزر أفكار الفلسفة في صورة عبارات مبسطة للقارئ العربي، علاوة على ذلك نجاحه أيضاً في جعل أصعب مشكلات الفلسفة في متناول قارئ الصحيفة اليومية، مما جعله قادراً على الخروج بالفلسفة من دائرة المتخصصين والدارسين المحدودة إلى دائرة رجل الشارع، لتؤدي دورها في الحياة اليومية بنجاعة. ولقد خلف لنا زكي محمود تراثاً فكرياً ضخماً في شتى ضروب المعرفة وليس قاصراً على الفلسفة فقط، فعلى سبيل المثال نذكر منها "المنطق الوضعي"، "خرافة الميتافيزيقا"، "تجديد الفكر العربي"، "رؤية إسلامية"، "حصاد السنين"، "المعقول واللامعقول في تراثنا الفكري" وغيرها من الكتب.
وإلى جانب تلك المؤلفات الغزيرة التي خلفها والمناصب التي شغلها وتأثيره الشديد على محبيه في مصر وغيرها من البلاد العربية، فقد اعتبر المدشن الأول لتيار الوضعية المنطقية في مصر والعالم العربي والإسلامي.
أهم الأفكار
إن أهم أفكار الدكتور زكي نجيب محمود هي فكرة تجديد الفكر العربي كضرورة لتحقيق الأصالة والمعاصرة. لكن بداية وقبل الحديث عن تلك الفكرة يجب أن نتساءل هل يمكن اعتبار الفكر السائد الآن فكراً عربياً خالصاً؟
إن الفكر العربي إذا لم يكن مواكباً لركب التقدم مسايراً لروح العصر مناقشاً لقضايا ومشكلات العالم العربي، نابعاً من عقول المفكرين العرب لا يمكن اعتباره فكراً عربياً خالصاً. فليس كل ما يكتب بالعربية يصبح فكراً عربياً كما أنه ليس كل من لبس العباءة العربية أصبح منتمياً للعرب فكم من فكر غير عربي قد كتب باللغة العربية. ولقد ترك لنا الأسلاف تراثاً فكرياً عربياً خالصاً، ولكن الكثير منه قد أصبح غير متماشٍ مع التقدم الثقافي السائد اليوم. لذلك فنحن بحاجة إلى تجديد ذلك الفكر، ولكي نستطيع أن نقوم بذلك التجديد فنحن بحاجة إلى أن نكون على دراية بمفهومي الأصالة والمعاصرة حتى لا نقع في خطأ الاندماج والتماهي التام مع ثقافة الغرب. وحتى لا نظل مقيدين بقيود الماضي تحت مسمى الحفاظ على الأصالة والتمسك بالتراث.
إذن.. ما هي الأصالة؟ وما هي المعاصرة؟
الأصالة والمعاصرة
إن المقصود بمفهوم الأصالة ليس هو عينه المراد بكلمة التراث. فالأصالة تعني تلك العلاقة التي تربطنا بماضينا شريطة أن يكون هذا الربط معيناً لنا على الحاضر. أما بالنسبة لمفهوم المعاصرة فنعني به عدم شعور الإنسان العربي بالاغتراب الفكري بين ماضٍ يحن له وحاضر ينبغي عليه أن يتشبث به. وإذا كان الأمر كذلك فإن المفكر العربي بحاجة إلى الجمع بين مفهومي الأصالة والمعاصرة فى فكر عربي يستطيع من خلاله مواكبة التقدم الثقافي السائد اليوم ويستطيع من خلاله التعايش مع متطلبات العصر.
إننا لا نستطيع تجديد الفكر العربي حتى نستطيع الجمع بين الأصالة والمعاصرة فى فكر عربي يجمع بين أفضل قيم التراث وبين التقدم الفكري السائد الآن، إلا بطريقة واحدة وهي النظر في تراثنا الفكري وتحديد مواطن الضعف فيه ومحاولة التخلي عنها، لأن تلك النقاط بمثابة عقبات وعثرات تقف أمام التقدم الفكري وتلك تكون البداية. ثم بعد ذلك تحديد مواطن القوة وأخذها وتنميتها والاقتباس من الثقافة المعاصرة ما يتماشى مع متطلبات الثقافة العربية، ولكن ذلك الاقتباس لا يكون مجرد نقل كلي، بل لابد من تدعيمه بالأفكار العربية حتى لا يكون مجرد تقليد أعمى لا جدوى منه.
وبذلك يكون المفكر العربي قد واءم بين الثقافة العربية الأصيلة بما فيها من قيم وموروث فكري ضخم والثقافة المعاصرة بما فيها من تقدم ورقي ومسايرة لروح العصر، ويكون دور ذلك المفكر هو دور المبتكر المنمي للفكر والثقافة وليس مقتصراً على النقل والحفاظ على التراث فقط.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.