مملة ومشوشة وذوقها منحدر.. ما أسباب تخلف الرواية العربية؟

عربي بوست
تم النشر: 2020/07/15 الساعة 10:56 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2020/07/15 الساعة 10:56 بتوقيت غرينتش
مملة ومشوشة وذوقها منحدر.. ما أسباب تخلف الرواية العربية؟

معظم الروايات الصادرة أخيراً تدور حول مظاهر ناجمة من الحرب والتطوّرات التي شهدها العالم والمنطقة بدءاً من هجمات "سبتمبر/أيلول"، مروراً بغزو العراق، وصولاً إلى الربيع العربي.
ما يعني أننا نستلهم مادتنا الروائية من التاريخ.. فلماذا هذه العودة إلى التاريخ؟ 

التاريخ هو جذر الرؤية الكاملة، والصورة لا تتضح إلّا به، فمهما بلغت درجة اندماجنا مع الحدث الآني، يبقى المشهد غائماً ومشوّشاً وتنقصه الدقة. لقد واكبت الرواية العربية أحداث المنطقة منذ أواخر القرن العشرين، وكان الهدف من ذلك تعميق مفهوم القضية وأدلجة الصراع وحصره في مناخ ثقافي تسهل مراقبته، وهكذا ولد الأدب الثوري وتفرّعت منه روايات السجون ومدوّنات الحرب التعبوية. وقتها كانت المنظومات العربية السياسية ترى الأدب وسيلة دعم لنظرية السلطة، لذلك غاب التاريخ عن مخيلة الروائي وحلّت محلّه صورة المناضل المعذّب والمثقّف الملعون. بعد الربيع العربي ظهرت الرواية التسجيلية التي ترصد الحدث من عدسة مكبّرة فارتجلت المئات من الروايات عن العراق وسوريا ولبنان، ما جعلها تكرّر نفسها، وتصبح مملّة ضوضائية وغير قادرة على الخروج من العباءة السياسية.

كما أن التضخم الروائي الحاصل لا يخدم الرواية العربية، بل على العكس يؤشر إلى تراجع خطير في المستوى الفني. لقد تكيّفت الرواية العربية مع المتلقي غير القارئ ومع المستهلك غير الماهر، وبالتالي ضعف الفن وغابت المخيلة القادرة على ابتكار العوالم، وأخذت الرواية العربية تتسطح لتكون قريبة من ثرثرة المدوّنات. نحن نعاني من أمّية في فن الرواية وفوضى استهلاكية جاهلة.

الرواية هي إعادة إنتاج الحقيقة بفرضية فنية، وهذا يتطلب جهداً إبداعياً والاستعانة بالمعرفيات للارتقاء بالوعي القرائي وصولاً إلى المتعة.

في رواية "ترتر" عدت إلى نهاية القرن التاسع عشر، لأنّّ صراع القدامة مع العلم والتحديث بدأ من هذا التاريخ وما عانيناه مدة قرن من ويلات الحروب، وما شهدناه من تراجع وخسارات مرجعه فشلنا في مواكبة النهضة الحديثة. لقد استعنت بالتاريخ لخلق صورة توضيحية عن الواقع الحالي، فالتشدّد الديني ورفض الحداثة والتشبّث بالقوانين الصحراوية، وقمع روح الحياة، وسلب حق الإنسان في العيش بسلام ورفاهية، وتكبيل العقل بالتبعية والجهل، هي من علامات حاضرنا الملتبس. لقد تأثّرت بما مرّت به الموصل من تجربة قاسية. عشتُ في مدينة الموصل مدة 17 سنة، وقد كتبت عنها الكثير وهي موجودة في معظم أعمالي ما عدا روايتي الأخيرة "أرض الأرجوان". الموصل هي المكان الجامع، فهي مدينة غنية جدّاً بالتنوّع الثقافي والتاريخي وتمثّل مرتكزاً شديد الخصوصية لمشغلي الأدبي، فهي ذاكرتي الأولى ومحفّزة خيالي لما تحتويه من تعدّدية دينية وإثنية ومن ثراء معماري. وبعد التدمير الذي لحق بالمدينة على يد داعش أجد هناك ضرورة لإعادة بناء الموصل روائياً، وهذا ما فعلته في روايتَي "يوليانا وترتر".

ترتر

رواية "ترتر" ترتكز على خلفية الزيارة التي قام بها الإمبراطور الألماني فيلهلم الثاني إلى إسطنبول عام 1898 والتقى فيها حليفه السلطان عبدالحميد الثاني، وهو اللقاء الذي نتجت عنه فكرة مدّ خطّ سكة حديد من برلين إلى بغداد. هذا هو الإطار التاريخي الذي التزمت به الرواية إضافة إلى الصورة التي كان عليها العالم آنذاك ومظاهر الحياة الاجتماعية والثقافية. وأعتقد أنّ ما يميّز رواية "ترتر" في هذا الاتجاه أنها لم تكن أسيرة الواقعة التاريخية، وأنّ الجهد الفني وازن بين الانطباع الحيّ للحدث وبين التماهي الحاصل مع مفردات زمن الرواية. الشخصيات التي تشير إلى التاريخ هي قليلة وغير فاعلة في الأحداث، لكنّ الرواية في العموم كانت تحرك نوازع القارئ كي يقتنع بها كعالم حقيقي. التفاصيل الحياتية كثيرة جداً في الرواية، وهذا ما جعلها قادرة على جذب القارئ من البداية إلى النهاية والتعاطف مع بطلة الرواية في خروجها عن سياق مهمتها المكلفة بها في الموصل. الرواية ذات الأجواء التاريخية تعدّ مغامرة صعبة، ذلك لأنّ الكاتب قد تخذله الفراغات، وبدلاً من السيطرة على الفضاءات ينغلق على الشخصيات والأحداث ويجعلها غير منتمية لزمانها ومكانها. في "ترتر" انتبهت جيداً لوظيفة التأثيث المكاني وخصوصية الثقافات الألمانية والتركية والعربية وكان لزاماً عليّ التفكير في إقناع القارئ الأجنبي، لذلك تبدو آينور هانز ألمانية بتفكيرها ومظهرها وطريقة تعاملها مع الظروف المحيطة بها. أعتقد أنّ الرواية نجحت فنّياً في إقناع المتلقّي.

ثنائية المرأة والمدينة هي جوهر رواية "ترتر"، فآينور هانز جاءت لتنقل الموصل من عصر إلى آخر، وهو دور تنويري لا يمكن لأحد أن يلعبه سوى آينور المؤمنة بقلبها وحسّها وإصرارها على حب الحياة وتحقيق العدالة الاجتماعية. نعم، هذه الرواية تنصف المرأة وتعلي مكانتها وتحثّ النساء على الاقتداء بآينور هانز، علماً أنّ بطلات رواياتي في غالبيتهن يملكن الروح القيادية. المجتمع الذي لا يرفع المرأة ويصادر حريتها ويحجّم فعلها هو مجتمع غير متحضّر ولا يمكن له النموّ بشكل سوي.

أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

علامات:
نزار عبد الستار
قاصّ وروائيّ عراقي
قاصّ وروائيّ عراقي.
تحميل المزيد