أزمة الشباب العربي في سوق الوعظ والتلقين

عدد القراءات
674
عربي بوست
تم النشر: 2020/07/15 الساعة 12:41 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2020/07/21 الساعة 13:05 بتوقيت غرينتش
Speaker at Business Conference and Presentation. Audience at the conference hall.

يقضي الكثير من الشباب العربي ساعاتٍ طوالاً مستمعاً ومشاهداً لمحاضراتٍ مسهبة لمحاضرين ومفكّرين ودعاة دينيّين وغير دينيّين. ورغم بعض الفوائد، فإنه يزيد في هذه المحاضرات الحشو والقصص ومغامرات هذا الدكتور وذلك الاستشاري. تعكس هذه الظاهرة برأيي إحدى المشاكل التي يعاني منها الشباب في عالمنا العربي، وهي الشعور بالحاجة الماسّة للوعظ والتلقين. لقد تحوَّل مبدأ سماع النصح وتلقّي الإرشاد شيئاً فشيئاً إلى حاجة وضرورة يشعر الشاب بالنقص والضياع في حال عدم إشباعها، ولهذا الأمر مظاهر متعددة وأبعاد كثيرة سأحاول اختصارها. 

البُعد الأول مرتبط بوسائل التعليم والتربية في عالمنا العربي، التي تعتمد على التلقين والمحاضرات بشكل كبير، وهو ما يُنتج أجيالاً تعتمد على هذا الأسلوب حصراً. يطلب منك هذا الشاب أن تعطيه زبدة الحديث والفاكهة مقشّرة. وتراه يلجأ لنفس العالم لسماع وجهة نظره دون أن يكون لديه أي رغبة في سماع رأي مضاد أو مختلف قليلاً. وهو لا يريد أن يبحث ليصل إلى الحقيقة رغم وفرة مصادر المعلومات. لقد اعتادت أجيالنا على الأستاذ والمربّي الذي يتحدث لساعاتٍ دون توقف، يحاضر حتى يجفّ فمه، والجماهير حوله في ذهول وانبهار أو نوم عميق، فتحوَّل هذا الأسلوب على مدار سنوات إلى ثقافة مترسخة قلَّما تسمح بالنقاش والتجربة العملية وتبادل الخبرات. 

طبعاً لا أنادي هنا بإلغاء دور المربِّين والمحاضرين، ولكن المطلوب اليوم هو أن نواكب التقدم المعرفي الذي يخفّض إلى حدٍّ كبير الاعتماد على الغير للحصول على المعلومة. لقد أصبح الاعتماد على النفس عن طريق البحث والتدقيق ضرورة، وأصبح التحليل والنقد والاستنتاج أساسياً في عملية التعلُّم، خاصة مع التطور التكنولوجي وسهولة الحصول على أي معلومة، لذلك أصبح من اللازم أن نعلِّم أطفالَنا وشبابنا منهجية البحث عن المعلومة وكيفية تقييمها، ما يتطلَّب درجاتٍ عالية من التفكير النقدي لتمييز الصحيح من الخاطئ والابتعاد عن المغالطات ما أمكن.

البعد الثاني هم المفكّرون الذين لا يجدون حرجاً في الإجابة عن كل سؤال، وهو ما يأخذنا للبعد الثاني، وهو غياب التخصص. يكثر في عالمنا العربي الرجال الذين يعرفون ويحاضرون عن كل شيء، يكفي أن ينال الشخص لقب "الدكتور" باختصاص معين حتى يسمح لنفسه بالتحدث في التربية والمشاكل الاجتماعية والطب والسياسة وأمور المرأة… وهنا يدسّ بعض المحدّثين السم في العسل عن حسن نية أو حماسة أو سوء نية. 

إن لقب الدكتور لا يسمح لحامله بادّعاء المعرفة المطلقة، بل بأن يمتلك مهارات ومنهجية البحث عموماً، إن بحث الدكتوراه يخوّل كاتبه الحديث بعمق عن موضوع بحثه ومواضيع قليلة ترتبط ارتباطاً وثيقاً به. طبعاً يحقّ لأي أحد كان أن يتحدث عن أي موضوع يريد، لكن على حامل الشهادة أن يتواضع ويخبر الناس أن رأيه في هذا الموضوع لا يستمد شرعيته من شهاداته المرموقة. إنَّ العالم بأسره يتجه نحو التخصص بأدقّ تفاصيل العلوم، وعليه، وبعكس ما نظن فإنَّ ادِّعاء الحكمة والتحدث في مجالات مختلفة لا يرفع من قيمة المتحدث. علينا الاقتناع أنه ليس من العيب، بل هو من الواجب أن يجيب أحدهم بـ"لا أعلم، فهذا ليس من اختصاصي"!

البعد الثالث يتعلق بالمحتوى، وهو غزارة الكميّة وضعف النوعية. فلنسأل أنفسنا ولنحاول أن نجيب بكل موضوعية: ما القيمة المضافة التي أنتجتها كل المحاضرات والدورات التدريبية والندوات والمؤتمرات والإصدارات المرئية والمسموعة خلال العشرين سنة الأخيرة؟ وما هو الأثر الفعلي لكل هذا على مستوى الأفراد والمجتمعات العربية من حيث التقدم المعرفي والعلمي؟ الجواب برأيي (وهو موضع نقاش طبعاً) أن الإنتاجية ضعيفة، ولا تتناسب مع أدوات التواصل المتطوّرة التي نمتلكها ولا مع سرعة تغيّر العالم مِن حولنا. تتجسّد هذه المشكلة باستنساخ التجارب والكلمات والمواعظ، وبتغييرات شكلية فقط طالت هذه الإصدارات، وبالنقاشات العقيمة والمتكرّرة على مواقع التواصل.

على الجانب الآخر بقي المحتوى يكرّر نفسه على مدار عشرات السنين باستثناء بعض الخروقات.، واللافت أن هذه الخروقات هي التي كانت وللأسف الأكثر عرضةً للنقد والتجريح رغم أهميتها، وبغضّ النظر عن صوابيّة أطروحاتها. إنّ ضحالة إنتاج الأفكار هذه تعكس أزمةً فكريّةً عميقةً جداً، يجب أن يتصدّى لها كلُّ من يعتبر نفسه مسؤولاً عن إحداث تغيير مجتمعي.

البعد الرابع لرواج سوق الوعظ والتلقين هو بعد الارتباط والإعجاب بالأشخاص إلى حد العمى، كالتعلّق بعالِمٍ أو محاضرٍ واحد ليكون مصدر كل معلوماتنا وآرائنا؛ لذلك ترى بعض الشباب كثير الاندفاع للدفاع عن هذا العالم أو ذاك، وتزخر مواقع التواصل الاجتماعي بمئات التعليقات، دفاعاً عن شخص معين لمجرد انتقاد فكرة من أفكاره. فتنهال التعليقات والأخذ والرد، ويختلط العلمي والفكري بالشخصي والديني، وتضيع الأفكار والأوقات دون أي مردود، عدا أن يزداد تمترس كل طرفٍ خلف جدران إضافية تبعدهم عن الموضوعية… وتزداد خطورة التعلق بالشخص في حال فشل الواعظ بعد فترة باجتياز امتحان أخلاقي كما حصل مع الكثير من الدعاة الدينيّين في السنوات الأخيرة، عندما فوجئ مؤيدوهم بمواقفهم السياسية مثلاً، فإذا بالمدافعين عن الفكرة أول مَن يتخلَّى عنها (وليس عن المبشِّرين بها فقط)، وأول من يفقد الأمل بها فقط، لتعلّقهم الشديد بالأشخاص لا الأفكار.

البعد الخامس والأخير مرتبطٌ برواج سوق الوعّاظ والمدرّبين والاستشاريين لأسباب نفسيّة وتجاريّة. لقد أصبح الجميع خبيراً ومحاضراً في كل شيء، فترى مدرب التنمية البشرية الذي يحاضر في فن الالقاء، وفي الوقت نفسه يعتبر خبيراً في إدارة المال والمؤسسات والأزمات. وترى المستشار الذي يحاضر في مشاكل النفس والتربية والسياسة والفن والاجتماع. وقد ينسف بعضهم نظريات علمية في علوم الطبيعيات والفيزياء بجلسة واحدة، أو سلسلة إطلالات على مواقع التواصل الاجتماعي، ضارباً أصول المنطق والعلم بخطاب شعبوي مليء بالمغالطات المنطقية والأخطاء العلمية. والأخطر عندما يزيد بعض هؤلاء عنصر الدين فيحلّلون ويحرّمون بناء على نظرتهم الشخصية لبعض الأمور.

 لقد فاقم "علم التنمية البشرية" (بعد إضافة اللمسة العربية عليه) أزماتنا الفكرية والعلمية عبر تفريخ المدرّبين والخبراء وتوزيع شهادات الحضور، بدل أن يُسهم في تنمية مهارات الشباب وتحسين قدراتهم. وللأسف، أسهمت مواقع التواصل بنشر المغالطات والترويج لبعض الوعّاظ، عبر إسماع الجماهير ما تحبّذ سماعه لا ما يجب سماعه.

كل ما ذُكر يسلّط الضوء على ثغرات تربوية كبيرة، لست هنا بمعرض التهجم على الناصحين والمربّين، وطبعاً ليس المقصود عدم سماع الشباب للنصح والإرشاد، ولكن الاعتدال مطلوب. فالواجب هو الاستفادة من كل الخبرات وسماع وجهات نظر مختلفة، ولا ضير من الإعجاب بشخص لتميّزه، ولكن الغلو في ذلك هو المذموم. شبابنا ليسوا بحاجة إلى محاضرات ومواعظ مطوّلة، امنحوا شبابنا الفرص وافتحوا لهم الأبواب بدلاً من الكلام والكلام فقط. 

دعوهم ليبنوا أفكارهم ويشكّلوا قناعاتهم، بدل أن تعرضوها لهم جاهزةً بقالب من القداسة… إن واجب المؤسسات والجمعيات الأهلية والتربوية في العالم العربي أن تتنبّه لخطورة هذه الأزمات على المدى القريب والبعيد، لاستدراك ومعالجة ما يمكن معالجته؛ رأفةً بالأجيال القادمة، وأن تعمل على استبدال سوق الوعظ والتلقين بسوق التفكير والنقد والتحليل والنقاش البنّاء، الذي يفتح آفاق الشباب، بدل أن يزيد من تقوقعها وتقزيمها.

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

محمد استيتيه
باحث في التربية والمناهج التعليمية
باحث في التربية والمناهج التعليمية