لطالما كانت سرت الليبية مدينةً ذات أهمية كبيرة على مر العصور، فخلال الحكم العباسي، كانت المدينة أحد أسباب توطيد حكم أبي جعفر المنصور على بلاد المغرب، أما خلال الاحتلال الإيطالي لليبيا فكانت المدينة نقطة بدأ خلالها دحر الغزاة، بينما في الوقت الحالي فإن مستقبل ليبيا متوقف على معركة سرت بين قوات الوفاق المعترف بها دولياً وقوات حفتر.
أين تقع مدينة سرت؟ ما هي أهميتها التاريخية، وأهميتها في الوقت الحالي؟
أين تقع مدينة سرت؟
سرت، هي مدينة ساحلية صغيرة تطل على البحر الأبيض المتوسط في الوجه المقابل تماماً للسواحل الإيطالية، تقع تحديداً وسط شمال ليبيا متوسطة أكبر مدينتين في البلاد فهي على بعد نحو 450 من العاصمة طرابلس باتجاه الشرق وعلى بعد 569 كم من بنغازي باتجاه الغرب.
ولا تعد سرت من المدن الكبيرة، إذ إنّ عدد سكانها لا يتجاوز 78 ألف نسمة، وفقاً لتقديرات عام 2012، أما مساحتها فتبلغ نحو 69 ألف كيلومتر.
تاريخ إنشاء مدينة سرت
إذا أردنا الحديث قليلاً عن تاريخ إنشاء مدينة سرت، فإن التفاصيل متشابكة بعض الشيء، لكننا سنحاول توضيحها لك بأبسط طريقة.
سرت هي المنطقة الممتدة من بلدة العقلية شرقاً إلى بلدة بويرات الحسون غرباً، في هذه المنطقة نشأت في القرن الرابع الميلادي عدّة مستوطنات فينيقيّة عرفت إحداها باسم "إيفورانتا ماكوماديس".
فيما بعد نشأت في المنطقة ذاتها إحدى القرى التابعة للبونيقيين تدعى كراكاس، وهذه القرية أصبحت المركز الأساسي الذي أقيم على أنقاضها مدينة أتشينا الرومانية التي أنشأوها في القرن الثامن الميلادي.
والبونيقيون أو كما يسمون أيضاً البونيون هم شعبٌ سامي في شمال إفريقيا، بينما يرجح أنّ جذورهم التاريخية تعود إلى الفينيقيين الأوائل، فانقسموا إلى قبائل وممالك في شمال إفريقيا وقرطاج هي واحدة من أشهر مدنهم.
وعلى أنقاض مدينة أتشينا الرومانية أنشأ الفاطميون في القرن العاشر مدينة سرت التاريخية التي تعرضت للخراب مع مرور الوقت.
ولكن في العام 1885 ميلادية قام الوالي العثماني أحمد راسم باشا بإصدار أمر لإعادة إنشاء المدينة، فتولى ذلك قائم مقام قضاء سرت "عمر باشا المنتصر" ووطّن فيها من يرغب من قبائل البادية بينهم "العمامرة، الهماملة، الورفلة، القذاذفة، الفرجان، معدان، الربايع، المشاشي، الهوانة".
كما أسس في المدينة جامع "بن شفيع" الشهير الذي بات من أهم المعالم القديمة في سرت.
وتعتبر سرت الحديثة مسقط رأس الرئيس السابق معمّر القذافي من المواقع المهمة والاستراتيجية في ليبيا الآن بسبب موقعها المتوسط وسط البلاد، فهي بوابة الانطلاق للمناطق الداخلية بفزان.
بسببها استطاع العباسيون توطيد نفوذهم في بلاد المغرب
كانت المنطقة التي تأسست فوقها مدينة سرت من قبل الفاطميين شاهدة على توطيد العباسيين لحكمهم في بلاد المغرب بعد أنّ استطاع خلالها أبو الأشعث قتل أبي الخطاب عبدالأعلى بن السمح المعافري على أرضها.
القصة بدأت في القرن الثامن السابع الميلادي، عندما حاول أتباع المذهب الإباضي فرض سيطرتهم على بلاد المغرب، بحسب ما ذكره كتاب "الخلافة العباسية وموقفها من الدول المستقلة في المغرب" للدكتور ياسر الخزاعلة.
فبايعوا الإمام أبو الخطاب عبدالأعلى بن السمح المعافري خارج مدينة طرابلس، ثم داخلها من دون حرب.
واستطاع أبو الخطاب الذي كان من رجالات العرب الحاملين لفكر الإباضية الاستيلاء على طرابلس، ثم قابس، قبل أن يقتل عبدالملك بن أبي الجعد قائد قبائل وربجومة ويسيطر على القيروان في العام 758 ميلادية.
وفي العام 759 تمكن أبو الخطاب من الانتصار أيضاً في إحدى المعارك على جيش العباسيين بقيادة أبي الأحوص العباسي.
بعد استمرار انتصارات الإباضيين خشي الخليفة العباسيُّ أبو جعفر المنصور على دولته، فبعث إليه جيشاً ضخماً بقيادة محمَّد بن الأشعث الخزاعي، الذي قضى على أبي الخطَّاب وإمامته، في معركة تاورغا التي جرت في منطقة سرت سنة 761 ميلادية.
بعد انتصار العباسيين على إمامة أبو الخطاب سار بن الأشعث باتجاه قيروان فسيطر عليها وبذلك تمكن العباسيون من توطيد نفوذهم في بلاد المغرب.
شهدت معركة فاصلة في تاريخ ليبيا ضد الطليان
تعتبر معركة القرضابية معركة فاصلة في تاريخ النضال الليبي ضد الاحتلال الإيطالي الذي بدأ في العام 1911 ولم ينته إلا في العام 1951 إذ شكلت بداية سعي الليبيين بطرد الطليان.
وقعت معركة القرضابية في 29 أبريل/نيسان 1915 في مدينة سرت، وكانت تعرف بأنها "معركة الوحدة الوطنية" إذ شهدت مشاركة جميع الليبيين فيها، فعقب هذه المعركة سقطت الحاميات الإيطالية الواحدة تلو الأخرى وبحلول منتصف أغسطس/أب من نفس العام الذي وقعت فيه معركة القرضابية لم يبق بيد الإيطاليين إلا مدينتا طرابلس والخمس.
بدأت المعركة بعد زحف الجيش الإيطالي رفقة بعض المرتزقة الإرتيريين باتجاه قوات المجاهد صفي الدين السنوسي المتواجدة جنوب مدينة سرت قرب قصر بوهادي.
استهدف الجيش الإيطالي المدينة بمئات قذائف المدفعية والرصاص الحي فتسبب بسقوط أكثر من 400 شهيد من المجاهدين والمدنيين.
مع نهاية اليوم وصل الطليان إلى منطقة المجاهدين فبدأت الاشتباكات مع المجاهدين الذين حاصروهم رغم أنهم لم يمتلكوا سوى الأسلحة البيضاء المكونة من سكاكين وخناجر وسيوف.
وفي نهاية المعركة انتصر المجاهدين وغنموا الكثير من المدافع والذخائر والبنادق والمؤن والإبل، فيما تكبد الجيش الإيطالي خسائر كبيرة فلم ينج منهم سوى ما يقارب 500 جندي.
كانت هذه المعركة فاصلة في التاريخ الليبي ففيها حققوا نصراً كبيراً وبمعدات تكاد لا تذكر، وبسببها استمر الليبيون بنضالهم حتى تحقيق الاستقلال.
من يسيطر على سرت يسيطر على ليبيا.. لماذا؟
مدينة سرت بالغة الأهمية حالياً بالنسبة للقوى المتصارعة في ليبيا، كونها تمتلك ميناءً يعد بين الموانئ الأكبر في ليبيا، يطل على خليج طبيعي واسع، ومطاراً دولياً، وقاعدة جوية عسكرية كبيرة، تكمن أهميتها في موقع المدينة في قلب البلاد تماماً، ما يجعل القاعدة نقطة انطلاق مناسبة للطائرات، في أي اتجاه أرادت المضي إليه في ليبيا.
كما أنها تمثل نقطة دفاع رئيسية عن إقليم طرابلس ونقطة تمهيدية إذا أرادت حكومة الوفاق تحرير الشرق من سيطرة حفتر، وهو هدف بدأت تتحدث عنه حكومة الوفاق بعد دحر هجوم حفتر على طرابلس.
وإضافة لما سبق هناك ميزة أخرى مهمة يمكن من خلالها اعتبار أن من يسيطر على سرت سيسيطر على كامل ليبيا، وهي أنها خط الدفاع الأخير عن الهلال النفطي الليبي.
والهلال النفطي يضم أهم 4 موانئ نفطية في البلاد وهي "رأس لانوف، البريقة، السدرة، والزويتينة" والتي تصدر يومياً أكثر من 80% من نفط ليبيا الخام، ولا يفصل هذه الموانئ عن سرت سوى 150 كيلومتراً باتجاه الشرق.
لذلك فإن سقوط سرت يفتح أبواب المنطقة التي تمثل عماد الاقتصاد الليبي، وشريانه الرئيسي، هذا الأمر يفسر لنا دون أدنى شك أهميتها الكبيرة وسبب استماتة جميع الأطراف من أجل السيطرة عليها.