سيغير طريقة تفكيرك عن المرأة والأسرة والعالم.. كيف يمكن لـ”مهندس السعادة” أن يغير حياتك؟

عدد القراءات
6,446
عربي بوست
تم النشر: 2020/07/03 الساعة 12:10 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2020/07/03 الساعة 12:11 بتوقيت غرينتش
شيء إن فعلته أصبحت ملكا في قلوب الآخرين

استلهام حياة مشاهير الفكر والأدب في الأعمال السردية أصبح مدار اهتمام الروائيين، إذ تمتزجُ أحداث مُتخيلة مع وقائع حياة مَنْ ظَلَّ تأثيرهُ مُتجذراً على مسيرة الفكر البشري. هنا نُشيرُ إلى إرفين د.بالوم الذي يعالجُ تاريخ أوروبا مُنطلقاً من سيرة الفيلسوف الألماني نيتشه في روايته المُعنونة "عندما بكى نيتشه".

غير أنَّ الكاتب السويسري المقيم ببريطانيا آلان دوبوتون يجمعُ بين أُسلوب الاستقصاء الصحفي والسرد الروائي والتوثيق التاريخي مع ما يستخلصُ إليه خلال تأمُله لآراء الروائي الفرنسي مارسيل بروست ومُقتطفات لما تضمهُ روايتهُ من أفكار عميقة في مؤلفه "كيف يمكن لبروست أن يغيَّرَ حياتك" الصادر من دار التنوير ترجمة يزن الحاج.

لا يختلفُ أسلوب آلان دوبوتون في هذا العمل عما يسلكهُ في كتاب "عزاءات الفلسفة" إذ يحاول ربط معطيات فلسفية وأدبية بأمور حياتية حيث يجوبُ المؤلفُ في حيثيات الظروف التي عاشها مارسيل بروست كإنسان وعلاقته مع الآخرين، ومنْ ثُمَّ يسْتديرُ إلى انشغالاته الأدبية بدءاً من تجاربه الأولى في كتابة المسرح ومروراً بتأليف الجزء الأول من روايته، وصولاً إلى إنهاء عمله المُضني الذي يُعتبرُ علامة فارقة في الأدب الروائي عقب الحرب العالمية الأُولى. 

كما يتضمنُ الكتابُ آراء الأُدباء المُعاصرين لبروست منهم أندريه جيد، وفرجينيا وولف، كل هذا بجانب تصوير ما كان يعانيه بروست من مرض مزمن (الربو) حيث قَيدَ حريته وأرغمه على ملازمة السرير، وتحملَ عذاب نوباته الخانقة، كما حدد المرض طريقة ملبس بروست إذ كان يظهر في المُناسبات مرتدياً أكثر من معطف، فإن عجز الأطباء عن مُعالجة مرضه حدا ببروست إلى زعزعة ثقته بالطب. 

يقولُ "الإيمان بالطب هو قمة الحماقة وعدم الإيمان به حماقة أكبر". بجانب ذلك يَشْرَحُ المؤلفُ العلاقة بين العباقرة والمعاناة، ويؤكدُ على قدرة بروست في استيعاب محنته مع المرض. كما يُشيرُ في هذا السياق إلى سعي الفلاسفة وراء السعادة غير أن التجارب تكشفُ أنَّ تطوير مُقاربة فعالة للبؤس تَبز فعلياً قيمة أي مسعى يوتوبي وراء السعادة. 

يشرعُ الكاتبُ بالدخول إلى عالم بروست من خلال سؤال طرحتهُ "لانتر إنسيغان" وهي صحيفة مُتخصصة بالأخبار الاستقصائية على نخبة من مشاهير الفن والأدب في أوروبا حول ردود فعلهم إذا تلقوا خبراً بأنَّ نهاية العالم قد أزفت؟ طبعاً تتباين وجهات النظر حول هذا الموضوع، وكان بروست من الذين قد استجوبتهم الصحيفة بشأن فرضية وقوع الكارثة إذ يرى بروست بأنه بوجود خطر يهدد حياتنا ستزيد الحياة روعة، ونصبح أكثر تعلقاً بها، كما تتبدى أبعادها الجمالية المُبهمة ونرجو إرجاء تحقيق هذه الفرضية إلى أن نُنجز بعض مشاريعنا مثل زيارة متحف اللوفر والبوح بحبنا العارم لآنسة فلانة. 

من خلال إجابته تستشفُ رؤية بروست لعنصر الزمن الذي لا يرى فيه الإنسان خصماً إلا في لحظة اقتراب غيابه على مسرح الحياة. ومن ثُم يتنقلُ الآن دوبوتون إلى ما يمكن وصفه بعقدة مهنة الأب في حياة بروست، كان والده طبيباً ذائع الصيت في فرنسا بجانب ذلك قد ألّف كتباً عن إرشادات صحية ونال وسام جوقة الشرف برتبة فارس. فيرغبُ مارسيل بروست في عمل يضارع أهمية ما يقوم به والده يخاطب خادمته "آه يا سيليستي لو كان أن أتأكدُ من أنني سأفعل بكتبي ما كان يفعله والدي مع المرضى".

كأن بروست توقع بحدسه دور الرواية في مُعالجة المرضى في المستقبل حيث كثُرت التقاريرُ والدراسات مؤخراً عن جدوى الرواية بالنسبة للمرضى، لم يقبلْ مارسيل بروست فكرة التزام بوظيفة معينة مع أنَّه قد اختبر العمل الوظيفي في مجالات مختلفة غير أنَّه لم يستمر، ويقول: "في أشدّ لحظات حياتي لم أكنْ أتخيل أمراً أشد فظاعة من مكتب المُحاماة".

مقلب آخر من حياة بروست هو علاقته مع أمه، فهو كان يشعر بالعجز عن فعل أي شيء بدونها، إذ ينقلُ صاحبُ "عزاءات الفلسفة" كلام بروست عن محاولات الأم لتعليم ابنها على أن يعيش في غيابها. وعندما سُئل بروست عن معنى التعاسة أجاب بـ "أنفصل عن أمي تماماً". ومن ثُمَّ يذكرُ المؤلف قرار بروست لطبع روايته على نفقته بعدما يرفضُ أندريه جيد نشرها في دار غاليمار. 

قد بدا أسلوب بروست غير مألوف، كما أن إضافة الشروحات إلى عمله تزيد صعوبة قراءته، فهو أبدع لغة جديدة وتراكيب مختلفة في صياغة الجمل المطولة إذ لم يستسغ أومبلو كمدير لدار النشر عمل بروست كما جاك مادلين وهو قارىء بإحدى دور النشر الفرنسية كتب في تقريره عقب الانتهاء من قراءة "البحث عن الزمن المفقود" ليس لدى المرء دليل ولو دليل واحد لفهم ما يدور هنا ما مغزى كل هذا؟ ما معناه؟ أين سيقود؟

يشيرُ صاحب الكتاب إلى أن جميع الناشرين الآخرين تشاطروا الآراء ذاتها، ولكن ما إن تمضي سنوات حتى يتأسف هؤلاء الأشخاص على اعتراضهم وموقفهم السلبي حيال رواية مارسيل بروست، فالأخير هو الوحيد الذي يستمتع بالندم والاعتذارات المتدفقة عليه. بجانب نبوغه في التأليف وتشخيص دوافع السلوك الإنساني، كان يروق له تحليل الأعمال الفنية إذ يبحث في الواقع عن ملامح مشابهة للوجوه التي يراها في اللوحات الفنية، إذ تهمه توعية المشاهد لما تختزنه تلك الأعمال من أبعاد جمالية وما تستجليه لمزايا الحياة البسيطة، وذلك لا ينفصل عن رؤيته لمفهوم الحرمان بحيث ما تتوصل إليه في قراءتك لطروحات بروست أن لذة الحرمان تفوق متعة الامتلاك، وهذا ما يتجسد في تباين الحالة الاقتصادية بين الدوقة وألبرتين، فالأولى لا تتمتعُ بما تحصلُ عليه نظراً لغنائها، بينما الثانية تتلذذ برغبة الوصول إلى درسدن كما أن حبها واهتمامها بالفساتين والقبعات أكبر. 

وهذا التصور يلقي بظلاله على تعامل مارسيل بروست مع المرأة، هو يفضل المرأة التي تلقي بالرجل إلى دوامة الشك، رغم ذكائه لإنشاء شبكة من الأصدقاء وتواصله مع الطبقة الأرستقراطية، لكن بروست لم يحبذ قضاء وقته في المناسبات الاجتماعية  ويرى بأن الوقت الذي نستقطعه من العمل من أجل ساعة للحديث مع شخص معين ليس إلا مبادلة للواقع بشيء غير موجود. رفض بروست النمطية في التفكير واقتنع بقدرة الإنسان على استقاء الأفكار العظيمة من خلال المتابعة لما هو يومي وما يُنشرُ على صفحات الجرائد لولا تقصي فلوبير لأخبار الصُحف وقراءته لخبر انتحار زوجة شابة ما كتب مدام بوفاري، ما برح بروست مُتابعاً لجريدة لوفيغارو ويقارن بين ما يقرأه من أخبار مأساوية بملاحم تاريخية. 

واتفق بروست مع الفيلسوف الألماني كانط حول ضرورة استقلال العقل إذ كما يؤكدُ كانط على خطورة توكيل غيرك على أن يُفكر بدلاً منك، كذلك بروست يعتقدُ بأن تحويل وظيفة الكتب من التنبيهية إلى أن تكون بديلاً لنشاطنا الفكري نوع من العبودية الثقافية. الأكثر تجد في هذا الكتاب صوراً أخرى لشخصية بروست ويُلمح دوبوتون لحالة الشذوذ لدى مارسيل بروست ويستندُ في ذلك إلى ما ذكره بروست بنفسه. ناهيك عن الإشارة إلى تأثير روايته الملحمية في الأوساط الثقافية والشعبية إذ صارت عقدة بالنسبة لفرجينيا وولف، فالأخيرة مقتنعة بأن بروست لم يترك شيئاً ليكون ثيمة للأعمال الروائية بحيث تخاف من إكمال قراءتها. كما صدر كتابٌ يضمُ وصفات كل الأطعمة المذكورة في "البحث عن الزمن المفقود" كما تحولت إليه كومبريه إلى معلم سياسي يقصده السياح لمعرفة المكان الذي أوحى لبروست بكتابة روايته إذ قضى مارسيل بروست سنوات طفولته في تلك المدينة، وفي كنف عمة ليوني التي تقدمُ له كعكة ماديلين.

يرحلُ بك دوبوتون في عوالم مارسيل بروست الذي لم تهواه فكرة مغادرة بلده من خلال مؤلفه المقسم على تسعة أجزاء، لا يقدمُ لك صاحب "هندسة السعادة" عبارات جاهزة في قوالب وعظية بل ما يتوخاه هو إمكانية رؤية الحياة من نافذة جديدة.

أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

علامات:
كه يلان محمد
كاتب عراقي مهتم بالثقافة والأدب والفلسفة
كاتب عراقي مهتم بالثقافة والأدب والفلسفة
تحميل المزيد