ماذا ستفعل إذا وجدت كتاباً يُخبرك بكل ماضيك، من لحظة الميلاد تقريباً؟
ماذا ستفعل إذا وجدت كتاباً يخبرك بكل ما ستفعله خلال السنة المقبلة، كل أفعالك بالتمام والكمال من تاريخ سقوطه حتی 3 أبريل من العام القادم؟
هذه هي الدهشة الأولى التي تنتابك لمطالعة "تلاوات المحو".
"أعتقد أن شخصاً غيري، في مثل هذه الأيام، ووسط كل هذا الصمت، كان سيضربه الجنون إذا لم يكن قارئاً! الكُتب هي ما يهون عليَّ وحدتي".
في هذه الفترة الغابرة، وسط كآبة الأجواء العامة بين حالات الوفاة وشبح الإصابة بفيروس كورونا المستجد الذي لا يُری ولكن يمكنه قتلك، تُمكّنك القراءة من عبور عالم آخر لشخصيات وحيوات أخری، لتنزعك من الملل والرتابة، وتُقحمك في صراعات أبطالها.
"تلاوات المحو" باكورة أعمال الكاتب المصري مصطفى منير الصادرة عن دار المحروسة لعام 2020.
سمعت عن العمل، وعن قوته الأدبية التي يتحاكی بها الناس، أعرف مصطفى منير منذ بداية مشروعه الأدبي تقريباً، من خلال تدويناته عبر هاشتاغ "تخاريف" على فيسبوك. اشتريت العمل من مكتبة كبری وسط المدينة، وبدأت قراءته، والحقيقة لم أتفاجأ بقوة وصلابة العمل التي بدت في الصفحات الأولى، لأن كاتبها رجل يحب الكتابة جداً، ويبجلها، ولا يستهين بأي عنصر من عناصر تكوينها. ليصنع كتابة رائعة، بلغة سلسة مضبوطة، ومفردات خاصة، وفكرة عبقرية، تكاد تُلامس الجنون.
تلاوة المعجزات
يحكي العمل عن ثلاث معجزات تضرب المدينة القميئة السوداء، الغارقة في البؤس والظلم، والشر الكامن في نفوس ساكنيها وحاكميها.
"في إضعاف معتقدات الناس مسبة لهم ولمن سبقوهم، وفي محاربة فلسفة رجال الدين جريمة، تقتل صاحبها ولو كان علی حق".
"تلاوات المحو" تحكي عن ثلاثة أحداث مهمة تضرب المدينة، فتدهشهم من فرط غراباتها وقسوتها، المعجزة الثانية منها ستدهشك حقاً، إذا لم يدهشك أن تمطر السماء فجأة بكُتب مدون بها جميع أعمال أهل الأرض. في الدهشة الثانية تُمحی ملامح البشر بالكامل، قبلها يمحو نفس البشر مظاهر حياة الإنسان على الأرض، يتم هدم المعابد والمكتبات والمتاحف، يتم قصف الأهرامات وأبي الهول، وتدمير مكتبة الإسكندرية، كل هذا لأن الإنسان جائر، ولأنه يظن أن في محو تاريخه محواً لخطاياه، ليقابل الرب بلا ذنوب، كما هو بلا تاريخ.
في الدهشة الثانية تتساقط ملامح الناس، يصيروا مسوخاً بلا ملامح، إلا ثلاثة أشخاص، سيربطهم الكاتب ببعضهم لأسباب تخص الحكاية وسارديها.
"القراءة كانت ملجئي الوحيد من عالم كئيب يهزأ بك ساكنوه".
الإنسان، خليفة الله في الأرض، الذي لم يحترم المكانة التي منحها الإله له، وسعی لمكانة أدنی، عن طريق ترسيخ وجوده في الأرض، لا لتعميرها، بل لتدنيسها، وإحكام السيطرة عليها، والسعي للخلود بطرق غير مشرفة، بظلم وقهر أخيه، والصعود علی جثث أعدائه من بني الإنسان. بل إنه من الفُجر قد ظلم الإله أيضاً، وقام بتأويل كلامه فيما يخدم مخططه الدنيء، كي يقنع الآخرين من بني جنسه بأن الله اختاره هو فقط ليكون صوتهم إلی السماء وإلی أكبر الرؤوس في الأرض بداية من مديريه حتی الحاكم الذي يحكم وهو موقن بأنه ظل الإله، والحقيقة هي أنه ليس إلا بشرياً من طين، يحاول منازعة الإله في ملكه وإحكام سيطرته علی بني جنسه ومنحهم درجات في الجنة أو الجحيم، دون أي اعتبار لفكر أي شخص منهم، أو لمحاولة أي إنسان في إيجاد ربه ليملأه اليقين.
"أن تكون فظاً غليظاً لا يهمك أبداً، الشيء الوحيد الذي يخشاه الجميع!".
"تلاوات المحو" عمل كابوسي بامتياز، يتحدث عن المدينة المظلمة الغارقة في الفقر والجهل، المدفونة في قاع القهر، الغارقة هي بسبب غرق أهلها وانشغالهم بملذاتهم، لا يشغل بالهم سوی الوجبة التالية والمضاجعة التالية والمال الذي سيدفئ جيوبهم. مدينة الإنسان الذي يفسر الظواهر حسب أهوائه، فيصف الإله بالغاضب علی عباده بسبب ظهور عاصفة أو أمطار، ويصفه بالمنعم إذا جاءه الخير بسبب نفس الظواهر، ويفسر حسب مزاجه أن الله أرسل أعمالهم إليهم ليخبرهم بيوم القيامة، ذلك اليوم الذي لا يعلمه إلا الواحد القهار.
الغرق في الكآبة
الرمزية والإسقاطات السياسية والدينية الحاضرة بقوة تخبرك عن البشر المتوقع محوهم، عمن ضحی المسيح من أجلهم فلم يهتموا بتضحيته وتملكهم الشك في عذابه أو في وجوده. من دخل وأقام في قلوبهم الشر المحض وأطاعوا الشيطان دون تدبر أو تفكير. المدجنين الذين توجههم بيانات الحكومة العاجلة علی التلفاز لتخبرهم بميعاد القيامة بالتوقيت واليوم وكأن الله اختصهم وأخبرهم، وتخبرهم بمواعيد العمل ومواعيد التعبد والتضرع، والذين تقنعهم البيانات بصحة قمع أي مفكر أو كاتب وحرقه حياً خوفاً عليهم من الأفكار التي قد تؤدي بهم إلی الجحيم، والحقيقة أنها في الغالب لم تكن ستؤدي إلا إلی إعمال عقولهم ليعرفوا مدی الشر والظلم الغارقين فيه، عن البشر المقيدين بالسلطة الدينية، والوهم، المتنمرين، القاتلين في الليل والمستغفرين في الصباح ظناً منهم أن حساب حسناتهم سيرجح دخولهم للجنة في النهاية، أو الآملين في عذاب مخفف لأنهم رغم أخطائهم لم يكفروا بالله ولم يلحدوا بوجوده، ظناً منهم أن الحساب في النهاية سيكون بالجمع والطرح كما في الرياضيات، عن بشر المدينة الذين أفسدوا فيها، مارسوا الزنا والظلم وكأن الإله غافل عما يعملون مستندين إلی رضا صاحب الأمر عليهم وكأنه شفيعهم.
في الرواية أكثر من رمز، وأكثر من تأويل، يمكنك أن تجد ما تشاء، وتفسر شخصية "نعمة" الفتاة الناقمة علی البشر والغاضبة من قدرها، التي تلعن البشر الذين اغتصبوها ثم ركلوها بعيداً عنهم خوفاً من النجاسة أو البقع الخضراء التي تملأ جسدها، يمكنك تفسير وجودها أو معجزتها كيفما تشاء، ولكن تفسيرك سيظل ممزوجاً بالشفقة علی طفلة طردها أهلها لتوفير نفقات علاج جسدها، وظلمها الناس واغتصبوها في كل شارع مقابل وجبة غذائية تضمن حياتها ليوم آخر، أو لأنها حينما وجدت مَن يقسم بأن في حبها حياته تركها ورحل لأنه يخاف أن يتبعها ويقترب من ماء النهر.
نجد في الرواية "فيليب" الرجل المؤمن التقيّ الذي يعرف المسيح ويحفظ إنجيله وينفذ تعاليمه ولا يحيد عنها، رجل يحمل تناقضات البشر كلها في قلبه، يقتل ويستغفر ويحب يهوذا أيضاً، يفعل كل شيء ليرضی عنه الباشا، ويفعل ما تفرضه عليه التعاليم طمعاً في ملكوت السموات.
قد يُعاب علی هذه التحفة الفنية غرقها في الكآبة والسوداوية ونظرة مصطفی منير المفرطة في السوداوية للحياة، ولكننا نتحدث عن عمل من أدب "الديستوبيا" المدينة الظالمة، فهل شهدت مدينة مظلمة زهوراً يوماً ما؟
وقد يتهم أحدهم الكاتب بإفراطه في استخدام المشاهد الجنسية أو الألفاظ الإباحية، ولكن حياة العامة لا تخلو من الخيالات الجنسية، أو السب والقذف بأفظع الشتائم التي تحط من شأن الخصم، والحقيقة أننا نسمع هذه الألفاظ يومياً في الشوارع مهما صممنا آذاننا عنها، ولا يمكن أن يكتب الكاتب في وصف مشهد جنسي صريح بين الأبطال ويقول لك تخيل، أو أن يترك فراغاً ويطلب منك ملأه.
في النهاية، المدينة الظالمة قائمة في كل زمان ومكان، والحكايات عنها لا تنتهي، وأظن أن حكاية مصطفی منير قد تضمن لنفسها مكانة ثابتة وقوية لسنوات طويلة قادمة لا يُزحزحها الزمن؛ لأنها كُتبت بإخلاص.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.