من المرتقب أن يصدر مجلس الدولة التركي، وهو أحد المحاكم العليا، غداً 2 يوليو/تموز 2020، قراراً تاريخياً بخصوص تحويل كنيسة آيا صوفيا مجدداً لمسجد يستقبل المصلين وتُتلى فيه آيات القرآن ويُرفع منها الأذان، بعد أكثر من 8 عقود على اعتمادها متحفاً.
إذ حوّلها مصطفى كمال أتاتورك إلى متحف عام 1935، ليشهد العام 2020 عودتها إلى مسجد تماماً كما أراد لها السلطان محمد الفاتح قبل نصف قرن.
ويعتبر مبنى آيا صوفيا صرحاً فنياً ومعمارياً فريداً من نوعه، وهو موجود على الضفة الغربية من إسطنبول وفي قلب الإمبراطورية البيزنطية، ولاحقاً منطقة السلطان أحمد بالقرب من جامع السلطان أحمد، وهي تبعد مئات الأمتار فقط عن قصر توب كابي، مركز إقامة السلاطين العثمانيين لأربعة قرون وأكبر قصور إسطنبول.
كانت أكبر مبنى في العالم وأعجوبة هندسية في عصرها، وظلت أكبر كاتدرائية في العالم منذ ما يقرب من ألف عام، حتى تم الانتهاء من كاتدرائية إشبيلية في عام 1520.
ولهذا المتحف -الذي كان في السابق مسجداً وقبله كنيسةً- قصّةٌ طويلة عاصرتها إمبراطورية وسلطنة وحروب ومحاولات حثيثة لحمايتها من الزلازل وترميمها والحفاظ على تاريخها العريق، حتى وصلت إلى يومنا هذا.
نتعرف في هذا التقرير معاً على تاريخ هذا المبنى الأثري، الذي شهد قرار تحويله الأخير تصريحاتٍ دولية غاضبة.
آيا صوفيا.. كنيسة بُنيت منذ 1700 عام!
كان البناء الأصلي لآيا صوفيا مختلفاً تماماً عن الذي نراه الآن، بل لا توجد أي وثائق عن بنائه الأصلي.
ونعود لعام 360م، عندما بُني في شهر فبراير /شباط في عهد الإمبراطور قسطنطين الثاني.
دُمّرت الكنيسة لاحقاً بسبب حريق، فأعاد الإمبراطور ثيودوسيوس الثاني بناءها وترميمها عام 415م.
لكنّ البناء الحقيقي لآيا صوفيا، والذي ما زالت بعض آثاره موجودة إلى الآن يرجع لعام 537م، وتحديداً في عهد الإمبراطور جستنيان الأول.
إذ شهدت الكنيسة حريقاً مرة أخرى عام 532، ودمِّرت بالكامل إلى جانب العديد من الكنائس الأخرى بالقسطنطينية في ذلك الوقت، بسبب احتجاجات على فساد جستنيان ورفع الضرائب.
على أثر هذا الحريق، أُعيد بناء كنيسة آيا صوفيا، لتكتمل بعد 5 سنوات في عام 537م.
وكلّف جستنيان الأوّل أعظم وأشهر معماريي عصره ببناء الكنيسة، وهما يسيدروس الميليتوس وأنتيميوس الترالليسي.
وبُنيت الكنيسة على طراز الباسيليكا المقبب، أي إنّ القبّة الحالية الموجودة هي قبّة الكنيسة.
وبلغ طول هذا البناء الضخم 100 متر، وارتفاع القبّة وحدها 55 متراً، أما قطرها فبلغ 30 متراً.
ويقال إن الإمبراطور جستنيان من شدّة إعجابه بالكنيسة لم يطلق عليها اسم أحد القديسين كما هي العادة، وإنّما أطلق عليها اسم "الحكمة الإلهية".
ومن حينها أصبحت كنيسة آيا صوفيا هي الرمز المسيحيّ الأبرز في المشرق المسيحي، وجوهرة العمارة البيزنطية.
وبقيت الكنيسة مركزاً للديانة المسيحية الأرثوذكسية في الشرق لقرابة ألف عام، قبل أن تشهد بداية الانشقاق بين مسيحيي الشرق والغرب في العام 1054، عندما شهد مبناها عزل البطريرك ميخائيل الأول سيرولاريوس من قِبل المبعوث البابوي للبابا ليو التاسع.
فتح القسطنطينية.. التغيُّر الكبير
ظلّت آيا صوفيا كنيسةً مركزيّة طيلة 916 عاماً، حتّى فتح محمّد الفاتح القسطنطينية في القرن الخامس عشر، حينها انهارت الدولة البيزنطية، وفي يوم الفتح دخل محمّد الفاتح كنيسة آيا صوفيا وأذّن المؤذِّن بصلاة العصر، وكانت هذه أوّل صلاة يصليها المسلمون في الكنيسة التي تحوّلت مباشرةً إلى جامع.
وعلى الرغم من ذلك، لم يجر تدمير فسيفساء الكنيسة المميز، بل تمت تغطية الرسوم والأيقونات المسيحية بالجبس والتي ظهرت من جديد بعد ترميم الكنيسة في القرن العشرين.
وشهدت آيا صوفيا ترميماً وتحويلاً بسيطاً على يد معماري السلطنة العثماني معمار سنان (1489 – 1588)، الذي أضاف المآذن لدعم القبة المرتفعة 54 متراً وحمايتها من الزلازل.
من الجدير ذكره أن سنان كان رئيس المعماريين وأشهرهم خلال حكم السلاطين الأربعة: سليم الأول وسليمان الأول وسليم الثاني ومراد الثالث، وُلد مسيحياً ثم اعتنق الإسلام وساهم في إنشاء أشهر الصروح التركية، مثل مسجد السليمانية، الذي دُفن فيه بعدما أشرف على تصميمه وبنائه بأمر من السلطان سليمان القانوني.
وبين عامي 1847 و 1849، أمر السلطان عبدالمجيد بترميم آيا صوفيا، عمِل عليها أكثر من 800 عامل ، تحت إشراف المهندسَين المعماريَّين السويسريين الإيطاليين غاسبار وجوسيبي فوساتي.
دمج الإخوة القبة والأقبية وقوَّموا الأعمدة ورمموا زخرفة الخارج والداخل من المبنى.
كما تم الكشف عن الفسيفساء في المعرض العلوي وتنظيفها، واستبدال الثريات القديمة بأخرى معلقة.
عُلقت إطارات جديدة نُقشت عليها كلمات الله ، محمد ، أبو بكر ، عمر ، عثمان وعلي ، وأحفاد الرسول محمد: حسن والحسين ، للخطاط كازاسكر مصطفى عز أفندي (1801-1877).
وفي العام 1850 بنى المهندسان فوساتي نزلاً أو مسجلاً للسلطان بطراز بيزنطي مستحدث ربط الجناح الملكي بالمسجد من الخلف.
وتم تجديد المنبر والمحراب، بينما تم إصلاح المآذن وتعديلها من الخارج بحيث تكون متساوية الارتفاع.
استُخدمت كنيسة آيا صوفيا كمسجد لمدة 482 عاماً، واعتبرت درة العمارة في إسطنبول، واشتهرت باسم "المسجد الكبير".
وبعد انهيار الإمبراطورية العثمانية تحولت إلى متحف في عام 1935، وسط جدل لم يتوقف بين المؤرخين والمثقفين والسياسيين في تركيا بشأن مصير هذا الصرح العريق، فهل تبقى متحفاً أم تعود جامعاً كما أراد لها محمد الفاتح؟
معاودة النشاطات الإسلامية وسط امتعاض دولي
بقيت آيا صوفيا متحفاً لأكثر من 86 عاماً يزورها السياح من شتى أنحاء العالم، إلى أن شهدت في الألفية الثانية مزاولة بعض النشاطات الإسلامية فيها ممهدة لتحويلها إلى مسجد.
وكانت جمعية خدمة الأوقاف والآثار التاريخية والبيئة، رفعت دعوى أمام مجلس الدولة في العام 2008 ضد قرار مجلس الوزراء عام 1934، الذي قضى بتحويل "آيا صوفيا" من مسجد إلى متحف، لتفتح جدالاً محلياً ودولياً حول وظيفة الصرح الديني.
وبعدما رُفضت الدعوى، قدمت الجمعية التماساً من جديد إلى المحكمة الدستورية عام 2015، أشارت فيه إلى أنَّ رفض إعادة "آيا صوفيا" للعبادة يعد انتهاكاً لحرية الأديان.
ثم في 31 مايو/أيار 2014، نظمت جمعية تسمى "شباب الأناضول" فعالية لصلاة الفجر في ساحة المسجد تحت شعار "أحضِر سجادتك وتعالَ"، وذلك في إطار حملة داعية إلى إعادة متحف آيا صوفيا إلى مسجد.
وفي عام 2016، عاد الأذان ليصدح من جديد من داخل متحف آيا صوفيا بإسطنبول في فجر ليلة القدر، خلال برنامج استثنائي نظمته رئاسة الشؤون الدينية التركية.
كما سمحت السلطات برفع الأذان من مآذن المتحف في بعض المناسبات الخاصة ما بعد عام 2016، ولكن من غرفة خاصة للمؤذن بساحة المتحف.
وأُثير كثير من اللغط حول تحوُّل الكنيسة لجامع، فإلى جانب اعتبارها من مواقع التراث العالمي لمنظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (يونسكو)، يرتبط تاريخ آيا صوفيا بالإمبراطورية البيزنطية المسيحية والإمبراطورية العثمانية الإسلامية، وهي من أكثر المواقع الأثرية زيارة في تركيا (3.3 مليون زائر في السنة).
اعتراض يوناني وأمريكي
وكانت اليونان اعترضت في 30 مايو/أيار 2020، على بث برنامج تلفزيوني ينقل تلاوات للقرآن من داخل آيا صوفيا -وتحديداً سورة الفتح- معبرة عن استيائها وقلقها من البرنامج، خاصة أنه يخضع لإشراف رئاسة الشؤون الدينية التركية.
كما شهدت آيا صوفيا في شهر رمضان في العام 2020، بث آيات من القرآن بصورة يومية، وهي المرة الأولى التي تستخدم فيها بهذه الطريقة المكثفة منذ تحويلها إلى متحف.
وردّ المتحدث باسم وزارة الخارجية التركية حامي أقصوي، بقوة على بيان وزارة الخارجية اليونانية، قائلاً: "آيا صوفيا سيبقى قيمة مهمة بالنسبة لتركيا والإنسانية جمعاء، وسنواصل الحفاظ عليه. وندعو اليونان للتخلص من عقدها التاريخية".
بدوره قال سفير الحريات الدينية بوزارة الخارجية الأمريكية سام براونباك، إن متحف "آيا صوفيا" له أهمية روحية وثقافية لمليارات المؤمنين بمعتقدات مختلفة حول العالم، داعياً الحكومة التركية إلى الحفاظ على وضع "آيا صوفيا" كمتحف؛ لإمكانية الوصول إليه من قِبل الجميع.
وردَّ نائب وزير الخارجية التركي، ياووز سليم كيران، قائلاً: "لا تقلق براونباك، تركيا ستواصل حماية تراثها الثقافي والديني. وأي قرار حول آيا صوفيا هو قرار داخلي تركي".
وكان الرئيس التركي قال إنه "من الممكن للسياح أن يزوروا آيا صوفيا كمسجد، كما هو الحال في السلطان أحمد، وأمتنا يجب أن يكون لديها قرارها بذلك".
وفي أحد اجتماعات الحزب الحاكم، قال أردوغان: "الصلاة تؤدى في آيا صوفيا، وتقرأ سورة الفتح، وأمتنا فقط هي التي ستقرر ذلك"، في إشارة إلى أن قرار إعادة "آيا صوفيا" لمسجد قرار تركي سيادي بامتياز.