في فيلم قاهر الفرسان، رفض فارس الشراديحي الذي قام بدوره الراحل وحيد سيف تبسّط ابنته روضة "دلال عبدالعزيز" مع الخدم بالقصر، ورفض أيضاً زواجها من مختار "يونس شلبي" الذي تحبه بسبب "البرستيج" والعزة والفخامة، فقالت له روضة إن جده الشراديحي باشا كان بائعاً للفول، ولكن فارس ظل على موقفه من التكبر والاستعلاء على الناس بسبب الغنى والمال الوفير؛ وهذا حال أصحاب الأصل الرديء!
الله -عز وجل- قد خلق الإنسان في أحسن تقويم، وهداه طريق الخير، وزرع في قلبه ما يسمى بالضمير. والضمير في الإنسان هو ذاك السراج المنير لصاحبه الذي يدله على الخير ويبعده عن الشر ويؤنبه إذا ما خالف الحق والعدل وحاد عن الصراط المستقيم.
لكن الإنسان هو صاحب قراره، فإما يغير من طبيعته للأحسن أو إلى الأسوأ، والإنسان الذي يريد أن يبتعد عن الحق يطمس ذلك الضمير بالتدريج حتى لا يكون له ثمة أثر في أي توجيه أو تأنيب أو توبيخ. لذلك تتباين معادن الناس ودرجاتهم وصفاتهم وكدرهم؛ يقول الرسول المصطفى صلى الله عليه وسلم: "الناس معادن كمعادن الذهب والفضة، خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا، والأرواح جنود مجندة، فما تعارف منها ائتلف، وما تناكر منها اختلف".
ويتضح معدن الإنسان في الابتلاءات؛ سواء بالخير، كمنصب أو مال أو جاه أو سلطان، أو في الشدة والمحن والمصائب. قال تعالى في سورة يونس: {ثمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلائِفَ فِي الأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُون}، يقول الطبري في تفسير هذه الآية: "ثم جعلناكم، أيها الناس، خلائف من بعد هؤلاء القرون الذين أهلكناهم لما ظلموا، تخلفونهم في الأرض، وتكونون فيها بعدهم لينظر ربكم أين عملكم من عمل من هلك من قبلكم من الأمم بذنوبهم وكفرهم بربهم، تحتذون مثالهم فيه، فتستحقون من العقاب ما استحقوا، أم تخالفون سبيلَهم فتؤمنون بالله ورسوله وتقرّون بالبعث بعد الممات، فتستحقون من ربكم الثواب الجزيل.
والإنسان صاحب المعدن النفيس سيثبت في محنة الخير حينما يفيض الله عليه بالمال الوفير والصحة والعافية، فلن نجد منه تكبراً على الناس، ولا أذى لهم، ولن نجد أيضاً استخفافاً ولا تحقيراً ولا همزاً ولا لمزاً من شعب لشعب آخر كما نسمع في الآونة الأخيرة من بعض المواطنين في دول الخليج عامة وفي دولة الكويت خاصة ضد المصريين و"الوافدين" بشكل عام.
والمال عرض زائل، ولا يقيم للإنسان وزناً بدون قيم ولا مبادئ ولا أخلاق، والبترول من الثروات التي تنفد يوماً ما؛ فما هو الحال بعد نفاده؟
إن الإنسان صاحب المعدن النفيس سيثبت حين يبتلى بمنصب أو كرسي الحكم؛ لذلك لن نجد منه ظلماً لرعيته ولا طغياناً ولا جبروتاً ولا قطعاً لرقاب المعارضين كما هو حال أغلب دول الوطن العربي حيث نجد السجون والمعتقلات للمعارضين أو حتى للساكتين عن النفاق سواء كان الحكم جمهورياً أو ملكياً. وفي بعض فترات من تاريخنا الإسلامي، نجد الحاكم يلقي بأكياس الدنانير الذهبية لشاعر مدحه، ونجد في ذات الوقت، المقصلة وما برحت تقطع رقاب آخرين ذموه أو عارضوه.
والشبكة العنكبوتية في عصرنا الحديث، جعلت العالم وكأنه قرية واحدة، وفصلت الحدود بين الشعوب، ووباء فيروس كورونا جعل الشعوب تتألم لبعضها البعض؛ فالمسلم يتألم لمعاناة أخيه المسيحي أو اليهودي، أو حتى البوذي أو الوثني أو الهندوسي في أي بلد. وغير المسلم من أي دين سماوي أو غير سماوي يتألم لأخيه في الإنسانية في أي بلد؛ فالألم واحد، والمعاناة واحدة، والموت متربص بالكل ويحصد الأرواح حصداً. ووسط كل هذه المحنة نفاجأ بفئة من الشعب الكويتي تسب المصريين وتحتقرهم.. ما هذا السلوك غير اللائق وغير المتحضر والبعيد عن الدين وعن الأخلاق، وفي وقت محنة يجب على الجميع أن يتحدوا للمرور منها بسلام.
ولماذا سب المصريين في هذا التوقيت بالذات، ومصر والمصريون لهم من الأيادي البيضاء الكثير، من ثورة الجزائر في الستينيات غرباً إلى دول الخليج شرقاً. البعثات التعليمية كانت تذهب إلى مصر سواء في الدراسة الثانوية والجامعية، وكسوة الكعبة المشرفة وإطعام الحجيج والمعونات الغذائية وغير الغذائية كانت تذهب إلى السعودية في التكية المصرية وغيرها. وأغلب دساتير الدول العربية صاغها الفقيه الدستوري عبدالرزاق السنهوري باشا والمديريات المختلفة، أي الوزارات فيما بعد، أنشأتها مصر في كثير من دول الخليج.
والنشيد الوطني للجزائر لحنه الفنان محمد فوزي، وحتى الفنانون منْ أراد منهم أن يبدع أتى إلى مصر، فريد الأطرش السوري ووردة الجزائرية ولطيفة التونسية وإلياس مؤدب السوري وصباح اللبنانية ومحمد عبده السعودي وغيرهم الكثير والكثير من العرب وغير العرب.
والعجيب أن الشبكة العنكبوتية جعلت الزواج أضحى دولياً ويتعدى الأقطار والحدود والفواصل بين الدول، والزواج بين الشعوب المختلفة هو الذي يوحد بين الشعوب بعدما فصلت السياسة وألاعيبه بينهم؛ ومع ذلك نجد النعرات الطائفية والقبلية المقيتة والتي حاربها الإسلام منذ مهده. فحينما كَسَع (ضرب) رجل من المهاجرين رجلاً من الأنصار، فقال الأنصاري: يا للأنصار، وقال المهاجري: يا للمهاجرين، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ألا ما بال دعوى الجاهلية؟ دعوا الكسعة فإنها منتنة)، وقد روى الترمذي عَنْ ابْنِ عُمَرَ: "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَطَبَ النَّاسَ يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ فَقَالَ: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ اللَّهَ قَدْ أَذْهَبَ عَنْكُمْ عُبِّيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ وَتَعَاظُمَهَا بِآبَائِهَا ، فَالنَّاسُ رَجُلَانِ بَرٌّ تَقِيٌّ كَرِيمٌ عَلَى اللَّهِ وَفَاجِرٌ شَقِيٌّ هَيِّنٌ عَلَى اللَّهِ ، وَالنَّاسُ بَنُو آدَمَ وَخَلَقَ اللَّهُ آدَمَ مِنْ تُرَابٍ، قَالَ اللَّهُ: ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ ).
إن القوى الناعمة هي التي ستبقى في الأمم؛ فمجلة العربي ومجلة عالم الفكر وكتاب عالم المعرفة وغيرها من روافد الثقافة هي ما سيبقى في الكويت، أما المال والتكبر به على خلق لله، ونظام الكفالة سيئ السمعة، والسباب ضد مصر وللمصريين فإلى زوال، قال تعالى في سورة الرعد: {…فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً ۖ وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ ۚ كَذَٰلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ}.
إن الأصيل سيظل أصيلاً مهما اغتنى أو افتقر؛ لأن معدنه نفيس، ويزداد لمعاناً على لمعان وخاصة في الشدائد وفي فتنة المال.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.