اعتادَ البشرُ أن يسمُّوا الحيواناتِ التي تأكلُ اللحوم وحوشاً. برغم أننا نعلمُ جميعاً أنَّ الحيوانات المفترسة لا تقتلُ لوجود رغبةٍ في القتلِ لديها، بل تراها تصطادُ غيرها من المخلوقات لتأكل، أو أنها تقتل دفاعاً عن نفسِها في حالِ تعرضتْ لخطرٍ ليس إلا. أما من يسمونَ أنفسَهم "ببني الإنسان" فيقتلونَ، ويعذبونَ، ويسجنونَ بعضَهم بعضاً بلا رحمة.. ويفتكونَ بالمخلوقاتِ الأخرى دون أدنى إحساسٍ بشفقةٍ أو عطف.. ويؤكدونَ لأنفسِهم دوماً أنهم أصلُ الإنسانيةِ والحضارةِ والرقي.
ربما لم تسمعْ من قبل بقصةِ فيلةِ السيركِ ماري.. حسناً.. سأقصُ عليكَ الحكاية، ولكن أرجو أن تجيبَ في النهايةِ بصدقٍ عن سؤالي: "هل ما يزالُ الإنسان إنساناً؟".
الزمان: عام 1916 ميلادي
المكان: ولاية تينيسي الأمريكية
بطلُ القصة: ماري، فيلةُ السيركِ الضخمة التي تجوب الولايات المتحدة برفقةِ سيركٍ اشتراها وقام بتدريبها على تقديم العروضِ البهلوانيةِ التي أخذت تجوبُ شوارعَ الولايات الأمريكية وتتنقلُ فيما بينها.
كان مُقرراً للعرضِ أنْ يُقام في مدينةِ كينغ سبورت.. أخذَ المدرِّبون يطوفون الشوارعَ برفقةِ حيواناتِ السيرك ويروجونَ لعرضهمِ القادم، يشجعونَ الناسَ على شراءِ التذاكر، والدخولِ لحضورِ العرضِ المقرر. وكانت الفيلةُ التعيسة بين تلك الحيوانات.
قبلَ يومٍ واحدٍ من ذلك الترويج، تم تعيين مُدربٍ جديد لها، والذي قررَ أن يدربَها بطريقتهِ الخاصة بحيثُ يجبرُها على طاعةِ أوامِره.. ما عليه إلا أنْ يشير، وما عليها إلا أنْ تمتثل. حملَ المدربُ عصا في نهايتها رأسٌ مدببٌ تشبهُ الحربة.. وسارَ أمامَها مثل قائدٍ يقودُ جيشاً.. كلما تحركتْ ماري حركةً لا تُرضي المدرب وخزها بالعصا التي تشبه الحربة.
خلالَ عرضِ الترويج، شاهدتْ ماري قشرةَ بطيخٍ ملقاةً على جانبِ الطريق، توقفتْ لتلتهمَها.. وخزها المدرب، وأمرها أنْ تسير، فلم تمتثل.. ضربها.. دون فائدة، فوخزها في فمها بعصاه الحادة.. جُنَّ جنون الفيلة، وانفلتَ عقالُها.. فضربت المدربَ بقوة وطرحتهُ أرضاً وداست رأسَه بقدمِها.. انفجرت جمجمته، وتناثرَت دماؤه على الأرض.. ولم تكتفِ بذلك بل جلستْ فوقَه أيضاً.
دبَّ الهلعُ في المكان.. وفرَّ الناس.. تعالت الصيحاتُ المذعورة.. مناديةً بقتلِ الفيلة.. أطلقَ البعضُ النيران التي لم تكن ذاتَ تأثيرٍ على الفيلة.. ولمْ تنهض من فوقهِ إلا عندما حضرت الشرطة وتعاملت مع الحادثِ بطريقتِها الخاصة، فسيطرت على الفيلةِ وأبعدتَها عن جثةِ المدرب.
لم تنتهِ القصةُ إلى هنا.. بل بدأت أحداثٌ أخرى أكثرُ رعباً تتوالى.
ثار أهلُ المدينةِ مطالبين بالقصاصِ من الفيلة، منهم من طالبَ بإطلاقِ النارِ عليها، ومنهم من نادى بصعقِها بتيارٍ كهربائي حتى الموت، ومنهم من طالبَ بربطِ أطرافِها بقطارين يسيران في اتجاهين متعاكسين، لتتمزق وتذوقَ من كأسِ الألم نفسه الذي أذاقتُه للمدرب.
ومع تعالي الأصواتِ المصرةِ على العقاب، أدركَ صاحبُ السركِ أنهُ سيخسرُ ثمنَ فيلَتِهِ لا محالة، لذا، اقترحَ إعدامَها شنقاً على رافعةٍ مخصصةٍ لرفعِ القطارات، في مدينةٍ أخرى (كان ينوي زيارتها لإجراءِ عروضِ السيركِ فيها)، وكان بدلُ أُجرةِ الرافعةِ هو السماحَ للجمهور بحضورِ عمليةِ الشنقِ كاملةً في مكانٍ عامٍ وبشكلٍ مجاني.
قبلَ الشنقِ، قُيدت أرجلُ الفيلةِ بحلقاتٍ معدنيةٍ سميكةٍ حتى لا تقاومَ، ورُبطت سلسلةٌ معدنيةٌ سميكةٌ على عنقها، وبدأت عمليةُ الشنق..
شرعت الفيلةُ ترتفعُ عن الأرض، وبدأ الحضورُ يسمعونَ أرجلها تتمزق تحت وطأةِ ضغطِ الحلقاتِ المعدنية عليها.. وصلت الفيلةُ المشنوقة لارتفاع يقارب متراً ونصف المتر، حدث ما لم يكن في الحسبان.. انقطعت السلسلةُ التي تحيط بعنقِها وهوت الفيلةُ أرضاً.. تكسَّرت سيقانُها وحوضُها وأخذت تعاني آلاماً مبرحة، ورغم ذلك، أُعيد ربطها مرة أخرى بسلسلة أقوى وأسمكَ من سابقتِها، وأعيد رفعُها لمتابعة الشنقِ حتى الموت..
شوهدت الفيلةُ وهي معلقةٌ تعاني آلامَ الموتِ البطيء وسطَ صرخاتِ الجمهور الفرحة والمشجعة.. تُركت معلقةً من عنقها لمدةِ نصفِ ساعةٍ كاملة.. حتى جاء الأمرُ من الطبيبِ البيطري بإنزالِها، تم فحصُها وأُعلنت الوفاة.. صرخَ الجمهورُ فرحين لزعمِهم بأنَّ العدالةَ قد أخذت مجراها.
توفيت الفيلةُ، وكسبَ صاحبُ السيرك جمهوراً ضخماً ضَمِنَ حضورَه للعرض القادم.
أعيروني انباهَكم ومشاعرَكم.. للقصةِ بقية.
أُرسلتْ جثةَ الفيلةِ للتشريح. تبينَ وجود تقرُّحٍ متورمٍ في فمِها، كان يسبِّبُ لها ألماً مبرحاً، ولاحظ الأطباءُ أيضاً وجود جرحٍ غائرٍ في منتصف القرحة، نتجَ عن ضربِ الفيلةِ بأداةٍ حادةٍ مدببة، وهي العصا التي كان المدرِّبُ يحملُها ويخزُ الفيلةَ فيها.
توفيت الفيلةُ دون أن تدافع عن نفسها، أو تجد من يدافع عنها، لم تستطع أن تقولَ للمطالبين بالعقاب بأنه قد ضربني في موضعِ الألمِ في فمي ففقدتُ عقلي، وانتقمتُ لنفسي منه.
أثارت القصةُ مشاعركم، أليس كذلك؟
حسناً.. هل انتهت القصةُ إلى هنا؟
أؤكد لكم أنها لم تنتهِ، بل غدت أكثر سوءاً وشراسة.. بمسمياتٍ مختلفةٍ وأماكن كادت تطالُ العالمَ كلَه، لدرجةٍ لم يسلم منها بشرٌ أو شجرٌ أو حتى حجر.. دماء ودمار وقمع وتشريد تحت مسمى تحرير الشعوب ومحاربة الإرهاب.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.