في أول زيارة رسمية له إلى فرنسا أثار الرئيس التونسي قيس سعيد الجدل، عندما وصف الاحتلال الفرنسي لتونس بـ "الحماية"، وبأنه لم يكن احتلالاً مباشراً كما حصل في الجزائر.
الاحتلال الفرنسي لتونس
في البداية، لا بدّ من شرح الفارق بين مصطلحي "الاحتلال" و"الحماية" واختلاف كلٍ منهما عن الآخر، قبل العودة بالتاريخ إلى الوراء قليلاً، والتعرف على تاريخ الاحتلال الفرنسي لتونس وأسبابه.
ما الفرق بين الاحتلال والحماية؟
وفق تعريف القانون الدولي، فعندما تكون أرض دولة واقعة تحت سلطة فعلية لجيش دولة أخرى فتعتبر الدولة الثانية محتلةً للأولى بحسب المادة 42 من لائحة لاهاي لعام 1907، المتعلقة بقوانين وأعراف الحرب البرية.
وللاحتلال نوعان؛ الأول احتلال هذه الأرض عن طريق الوسائل العسكرية، والثاني قد يكون مشروعاً إذا كان منصوصاً عليه في معاهدة بين دولتين، أي إذا اتفقت الدولتان على أن يكون الاحتلال جزاءً أو عقاباً تلجأ إحداهما إلى تطبيقه في حالة عدم وفاء الأخرى بتعهداتها.
في المقابل، فإن الحماية تعني وفق القانون الدولي أنَّ دولة أو مقاطعة تكون ذات حكم ذاتي، ولكنها محمية عسكرياً ودبلوماسياً من دولة أخرى أقوى منها، بهدف صد أي هجمات أو اعتداءات محتملة من طرف ثالث.
ومقابل تلك الحماية تقدم الدولة المحمية تنازلات وفق اتفاق تتفق عليه مع الدولة الحامية، وتختلف تلك الالتزامات والتنازلات بحسب علاقة البلدين.
ووفق القانون الدولي تظلُّ هذه الدولة الواقعة تحت الحماية محتفظة بسيادتها، ولكن اسمها يصبح "دولة محمية".
بينما هناك معنى آخر للحماية، وهو مصطلح "محميات استعمارية"، وقد جاء كنتيجة لتوسع الاستعمار الأوروبي خلال القرن الـ 19، وهذه الدول أصبحت فاقدة لاستقلالها، رغم وجود بعض الاستثناءات، لذلك لا يعتبرها القانون الدولي "دولاً مستقلة".
معاهدة باردو التي وضعت تونس في عهد الحماية
بدأ الاحتلال الفرنسي لتونس في العام 1881، بعد توقيع آخر حكّام الدولة الحسينية في تونس الباي محمد الصادق معاهدة باردو، أو معاهدة قصر السعيد مع الحكومة الفرنسية، والتي كانت بداية تشكّل الاستعمار الفرنسي لتونس، والذي لم يستمر سوى 75 عاماً.
أسباب توقيع معاهدة باردو
كان الوزير العام التونسي خير الدين باشا، يحاول ضرب أطماع إيطاليا وفرنسا ببلاده، عن طريق تقوية العلاقات التونسية – العثمانية، سيما أن فرنسا كانت تعاني من آثار هزيمتها أمام ألمانيا في حرب 1870، ومحاولة إيطاليا سبقها في ولاية تونس التي استقلت في تبعيتها عن العثمانيين، وذلك بحسب ما جاء في كتاب الحركة الوطنية التونسية للكاتب الطاهر أبو القاسم عبدالله.
فقام خير الدين باشا بالتقرب من الدولة العثمانية، عن طريق إرسال قوة عسكرية صغيرة من المتطوعين إلى البلقان في العام 1876، لمساندة العثمانيين في الحرب ضد روسيا على جبهة بلغاريا.
فأثار تزايد نفوذ خير الدين باشا لدى العثمانيين حفيظة الباي محمد الصادق، فأقاله في العام 1877، فسافر إلى إسطنبول، وتم تعيينه في منصب الصدر الأعظم لدى السلطان عبد الحميد الثاني.
بعد إقالة الباشا أصابت تونس نكسة، خاصة في الأمور المالية، فعادت سياسة التبذير والاستعانة ببريطانيا وفرنسا، وبدأت الدولة الحسينية في تونس تطلب قروضاً من الدول الأوروبية.
ولهذا نشأت أزمة بين محمد الصادق والدول الأوروبية الدائنة، وهو ما أدى لإنشاء لجنة دولية مالية تسمى "لجنة الدائنين الأوروبيين" في العام 1865، التي استولت على الموارد المالية الموجودة في الخزينة التونسية، من أجل توزيعها على الدائنين.
ولكن بعد مرور 16 عاماً لم تكن فكرة "لجنة الدائنين" ذات فائدة؛ إذ بقيت الديون على تونس على حالها، فكانت هذه فرصة لفرنسا من أجل توسيع فكرة الاستعمار والاستثمار في تونس.
فتعلّلت فرنسا بحجة حماية الحدود الجزائرية، التي كانت خاضعة للفرنسيين، واقتحمت الحدود التونسية، واحتلت المناطق الشمالية من البلاد واتجهت نحو العاصمة.
كما نزلت قوات من البحرية الفرنسية في ميناء بنزرت شمالي تونس، بقيادة الجنرال بريار، الذي توجّه إلى العاصمة بأمر من الرئيس الفرنسي آنذاك جول كريفي، من أجل توقيع معاهدة الحماية مع الباي محمد الصادق.
فقام الباي بتوقيع المعاهدة، في 17 مايو/أيار 1881، في قصر باردو، خوفاً من أخيه علي باي، الذي أحضره الجنرال الفرنسي رفقته لتسليمه الحكم حال رفض الصادق المعاهدة.
وقد أعطت المعاهدة فرنسا حقَّ الإشراف المالي وحق تعيين مفوّض فرنسي في تونس العاصمة، كما جرّدت البلاد من سيادتها الخارجية، فأصبحت فرنسا ممثلاً عنها.
ورغم حفاظ محمد الصادق باي على سلطة التشريع والإدارة، فإنّ كل القرارات التي كان يُصدرها لا تكون نافذة إلا بقبول المفوض العام الفرنسي.
وبهذا التوقيع أصبحت تونس رسمياً تحت ما سمَّته فرنسا "الحماية"، والتي تحوَّلت فيما بعد إلى استعمار، جابهه العديد من الحركات الثورية.
جرائم فرنسا في تونس
مثلها مثل كل الدول التي تعرَّضت للاستعمار، قد طالت الكثير من الانتهاكات والجرائم الشعب التونسي.
إذ تناول كتاب "السياسة العقابيّة الاستعمارية الفرنسيّة بالبلاد التونسيّة" للدكتور عبد اللطيف الحنّاشي، الكثير من الروايات التي أشارت إلى جرائم قامت بها فرنسا في تونس.
يشير د. الحنّاشي في كتابه إلى أنّ الاستعمار الفرنسي "ارتكب جرائم متنوّعة ومتعددة بحق التونسيين، منذ بداية غزوه واحتلاله للبلاد، ولم يتردّد الجيش الفرنسي في الأثناء بحرق المحاصيل الزراعية وأسر أفراد القبائل، ونفي مجموعات من سكّان القبائل (400 فرد من قبيلة وشتاتة)" إلى جزيرة سانت مارغريت الفرنسية.
جرائم عصابة "اليد الحمراء" الفرنسية
وتطرّق د. الحنّاشي إلى عمليات الترهيب والتعذيب الوحشي التي قامت بها عصابة "اليد الحمراء" التي أنشأتها الاستخبارات الفرنسية، وضمّت عناصر من الشرطة السرية أو من العاملين سابقاً في الأجهزة الأمنيّة والعسكرية، والتي كانت نشطة في دول المغرب وأوروبا.
مستنداً في ذلك إلى شهادة الكاتب والصحفي الفرنسي روجي ستيفان، ذاكراً أنّ العصابة تمكّنت من 47 اغتيالاً بحق شخصيات نقابية، أقربهم فرحات حشاد، إضافة لأشخاص من الحركة الوطنية التونسية التي كانت تسعى من أجل استقلال تونس من الاستعمار الفرنسي.
السعي وراء استقلال تونس
بعد نهاية الحرب العالمية الأولى وعلى إثر تغير الموازين العالمية، تم تأسيس الحزب الدستوري التونسي في العام 1919، الذي عمل على استقلال تونس من الاستعمار الفرنسي عبر نشر الوعي السياسي في كامل المدن.
كما كانت الحركة الوطنية التونسية بدورها تعمل على تكثيف اجتماعاتها للاتفاق على برنامج عمل للحركة، فقامت بإرسال مذكرة إلى الرئيس الفرنسي وودرو ويلسون، طالبت فيها بالاستقلال التام عن فرنسا.
بدء المقاومة التونسية المسلحة
بعد المماطلة والتسويف من قِبل الفرنسيين على مطالب الشعب التونسي بالاستقلال، أقام الحزب الحر الدستوري الجديد مؤتمراً سرياً بين أعضائه في يناير/كانون الثاني 1952 برئاسة الهادي شاكر.
واتفقوا على أنَّ التعاون مع فرنسا التي عملت على نهب ثروات تونس أصبح مستحيلاً، وأن عليهم العمل على استقلال البلاد.
فانطلقت المقاومة التونسية المسلحة على يد مجموعة مكونة من 3 آلاف رجل من "الفلاقة"، وهو مصطلح يُطلق على العناصر التي شاركت في المقاومة المسلحة من عناصر الحركة الوطنية، ولكنهم كانوا تحت قيادة الحزب الحر الدستوري الجديد.
فشنّوا حرب عصابات على الجنود الفرنسيين، نسفوا فيها السكك الحديدية والجسور، وسدّوا الطرقات، وهاجموا المعسكرات.
وبقي الكفاح المسلح طيلة 4 سنوات تأسست خلاله نواة الجيش التونسي، انتهى بإعلان فرنسا خروجها من تونس في 20 مارس/آذار 1956، والذي أعلن بشكل رسمي "عيد الاستقلال" في تونس.
رغم ذلك فإن القوات الفرنسية بقيت في ميناء بنزرت لعدة سنوات أخرى، حتى اندلاع معركة بنزرت، أو معركة الجلاء كما تسمى رسمياً في تونس، التي من خلالها تم خروج آخر جندي فرنسي من تونس، في 15 أكتوبر/تشرين الأول 1963.