لم يذكر التاريخ خليفة مات عشقاً سوى يزيد بن عبد الملك، الذي هام بجاريته حبابة لدرجة أنه احتضن جثتها ثلاثة أيام بعد وفاتها ولم يصدق أنها فارقت الحياة، وبعد أن دفنت بأيام معدودة غلبه الشوق فأمر بنبش قبرها ليراها ثانية، وما كانت إلا أيام معدودة حتى توفي كمداً وحزناً على فراق محبوبته.
تباينت نظرة المؤرخين إلى قصة يزيد وحبابة، فالبعض احتفا بحبهما، والبعض الآخر وصف حبابة بأنها "عدوة الله" التي أشغلت الخليفة عن أمور الحكم، والبعض قال إنها قصة مدسوسة من العباسيين الناقمين على الخلافة الأموية.
يزيد بن عبد الملك على نهج عمر بن عبدالعزيز 40 يوماً
بينما كان الخليفة الأموي عمر بن عبدالعزيز على فراش الموت، كتب إلى خلفه يزيد بن عبدالملك:
" سلام عليك أما بعد فإني لا أراني إلا لملبي، فالله الله في أمة محمد فإنك تدع الدنيا لمن لا يحمدك وتقضي إلى من لا يعذرك والسلام"، فلما بلغ كتابه يزيداً قال: "والله ما عمر بأحوج إلى الله مني" فسار على نهجه 40 يوماً ثم عدل عن ذلك.
حكم يزيد بن عبدالملك 4 سنوات فقط، وقد كان عهده عهد فتوحات أعظمها تلك التي قادها الجراح الحكمي في بلاد ما وراء النهر، كما كان من أصحاب المروءات، إلا أنه يؤخذ عليه إفراطه في طلب الملذات، خصوصاً عندما هام بعشق جاريته حبابة، التي وصفها البعض بأنها "عدوة الله" لانصراف الخليفة عن أمور الحكم بسببها.
وقد استغل أعداؤه عشقه لجاريته حبابة وتقضية وقته برفقتها ورفقة جارية أخرى تدعى "سلامة"، في تأليب الناس ضده، وقد جاء في "مروج الذهب" للمسعودي: " كان أبو حمزة الخارجي إذا ذكَرَ بني مروان وعابهم ذكر يزيد بن عبدالملك فقال فيه: أقعد حَبَابة عن يمينه وسَلاَّمة عن يساره، ثم شرب حتى قال: أريد أن أطير، فطار إلى لعنة اللّه وأليم عذابه".
حبابة تدخل حياة الخليفة
وردت قصة يزيد بن عبدالملك وجاريته حبابة في العديد من الكتب التاريخية، وقد اختلف المؤرخون في بعض التفاصيل إلا أنهم أجمعوا على عشق يزيد وولهه بحبابة.
فقد ورد في كتاب "البداية والنهاية " لابن كثير، أن يزيداً قد سمع قبل توليه الخلافة بجارية حسنة الوجه جميلة الصوت ذاع صيتها في مكة لجمالها وإتقانها للشعر والغناء، فبعث يزيد واشتراها بأربعة آلاف دينار، فلامه في إسرافه أخوه سليمان وقال له "لقد هممت أحجر على يديك" فاضطر يزيد لبيع جاريته بعد أن تعلق بها قلبه.
ولما أفضت إليه الخلافة، سألته زوجته سعدة: يا أمير المؤمنين، هل بقي في نفسك من أمر الدنيا شيء؟ قال: نعم، حبابة، فبعثت واشترتها له فحظيت الجارية عنده، وكذلك زوجته أيضاً.
يوماً بعد يوم زاد تعلق الخليفة بحبابة وعشقه لها، فانصرف عن أمور الحكم إلى الشرب وجلسات السمر مع محبوبته، حتى لامه أخوه مسلمة بن عبدالملك في ذلك وأغلظ عليه وذكره بعهد عمر بن عبدالعزيز، فأثر ذلك في نفس الخليفة وقرر اعتزال الشرب واعتزال حبابة أيضاً، كما ورد في كتاب "الأغاني" للأصفهاني.
فدفعت حبابة أحد الشعراء -يقال له الأحوص الأنصاري- لينشد بين يدي الخليفة شعراً يعدل به عن رأيه، ووعدته بإعطائه ألف دينار إن هو نجح في ذلك.
فأنشد الأحوص بين يدي يزيد بن عبدالملك:
أَلا لا تَلُمهُ اليَوم أَن يَتبَلدا فَقَد غُلِبَ المَحزونُ أَن يَتَجلَّدا
بَكَيتُ الصِّبا جُهدي فَمَن شاءَ لامَنِي وَمَن شاءَ آسَى فِي البُكاءِ وَأَسعدا
وَإِنِّي وَإِن فُنِّدتُ فِي طَلَبِ الصِّبا لأَعلَمُ أَنِّي لَستُ فِي الحُبِّ أَحدَا
إذا أَنتَ لَم تَعشَق وَلَم تَدرِ مَا الهَوى فَكُن حَجَراً مِن يابِس الصَّخر جَلمَدا
فَمَا العَيشُ إِلا ما تَلَذُّ وَتَشتَهي وَإِن لامَ فيهِ ذُو الشَّنان وَفَنَّدا
ولما كان الخليفة خارجاً إلى صلاة الجمعة، وقفت حبابة ببابه والعود في يدها وأنشدت: فَمَا العَيشُ إِلا ما تَلَذُّ وَتَشتَهي وَإِن لامَ فيهِ ذُو الشَّنان وَفَنَّدا
فقال: صدقت والله، قبح الله من لامني فيك، وعاد يزيد إلى سابق عهده مع حبابة منذ ذلك اليوم.
حبة عنب تكسر قلب الخليفة
قيل إن الخليفة قد بنى قصراً خاصاً لحبابة وجهزه كما تجهز قصور الخلفاء، وأراد أن يخلو بها في هذا القصر مدة من الزمن بعيداً عن أعين الرقباء ومشاغل الحكم.
وبينما كان الحبيبان يضحكان ويتسامران في إحدى الليالي كما جرت العادة، رمى الخليفة معشوقته بحبة عنب -وقيل بحبة رمان- وهي تضحك فشرقت وماتت.
جن جنون يزيد على موت محبوبته بهذه الصورة المفجعة وراح يذرف الدموع على فراقها، ولم يصدق أنها فارقت الحياة فعلاً فبقي إلى جوارها يشمها ويقبلها 3 أيام حتى أنتنت وجيفت، فلامه الناس على فعله، فأمر بغسلها ودفنها في منطقة بيت رأس.
وقيل إنه أقام على قبرها أياماً وأنشد فيها الكثير من الشعر منه قوله:
فإن تسل عنك النفس أو تدع الصبا * فباليأس تسلو عنك لا بالتجلد
وكل خليل زارني فهو قاتل * من أجلك هذا هامة اليوم أو غد
وقال في فراقها أيضاً:
أبلغ حبابة أسقى ربعها المطر ما للفؤاد سوى ذكراكم وطر
وقد ورد في كتاب "الأغاني" نقلاً عن المدائني، أن الشوق إلى حبابة قد غلب يزيداً بعد دفنها بثلاثة أيام، فأمر أن ينبش قبرها لينظر إليها نظرة أخيرة، ولما رآها قد تغيرت إلى حالة بشعة قال له أتباعه: يا أمير المؤمنين اتق الله، ألا ترى كيف صارت؟ فقال: ما رأيتها قط أحسن منها اليوم، أخرجوها.
فجاء أخوه مسلمة مع نفر من الناس وألحوا عليه حتى عدل عما هو فيه وأمر بإعادة دفن حبابة.
الخليفة الوحيد الذي قتله العشق
بعد موت حبابة، عاد يزيد بن عبدالملك إلى قصره في أربد، ومكث فيه مهموماً لا يغادره حتى مات حزناً على محبوبته بعد 40 يوماً من موتها، وقيل 17، وقد توفي يزيد شاباً عن عمر لا يتجاوز 34 عاماً.
ولا يعرف على وجه التحديد إن كان الخليفة قد دفن في إربد أم حملت جثته إلى دمشق ليوارى هناك في العام 724.
وهكذا انتهت قصة الخليفة العاشق الذي لا يعرف التاريخ خليفة مات حباً سواه.
مشككون في هذه الروايات
بالرغم من أن قصة يزيد وحبابة قد وردت في العديد من المراجع التاريخية إلا أن بعض المؤرخين يرفضونها ويقولون إنها موضوعة أو مبالغ فيها، وقد كان الهدف منها تشويه سمعة الأمويين من قبل العباسيين المتمردين على الخلافة الأموية.
ومن هؤلاء المؤرخين الرافضين لتلك القصص ابن تغرى بردي صاحب كتاب "النجوم الزاهرة" والذي يقول إنها قصص مدسوسة من قبل العباسيين الناقمين على الأمويين.
في الأعمال الدرامية
ظهرت شخصية حبابة جارية يزيد بن عبدالملك في مسلسل "فارس بني مروان" من إخراج نجدت إسماعيل أنزور، وقد قامت بتجسيد دورها الممثلة التونسية درة زروق.