“لم تسخري من تقاليدكِ ولم تكتبي عن حرية المرأة”.. رسالة من لُبنانية إلى الأديبة المغربية خناتة بنونة

عربي بوست
تم النشر: 2020/06/21 الساعة 11:06 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2020/06/21 الساعة 11:06 بتوقيت غرينتش
الكاتبة والأديبة المغربية خناتة بنونة

"هذا القلم إذا لم يكن يحس بهذه الزلازل التي تحدث في الواقع، وفي الأمة، وفي الوطن، وفي الإنسان… فهذا القلم ميت". خناتة بنونة

إلى الأديبة الفاضلة خناتة بنونة.. أما بعد..

من قال نغدو نسياً منسياً في عيشة مصيرها الفناء؟ إن الحياة لَخالدة إن ارتوت بفصيح الحديث والكلام، من ارتقت كلماته فأضحت عليلاً لا يغادر السماء، تلك هي حياة الأدباء، فكيف لو كان الأدب مغربياً خطته أنامل أنثى حرة أصيلة، يا ابنة المغرب الوفية، عزيزة القضية الفلسطينية، يا مَن اخترتِ الكلمةَ سلاحاً لكِ، فعبرتِ الزمانَ بكلماتكِ، وناصَرتي الحقَّ بآرائك، يا مَن علمتِ أجيالاً من الأدباء والأطباء.. معلمتي الحرة.

أكتب إليك كلماتي وأنا هنا في الجنوب اللبناني، في بلاد الأرز الممزق بالصراعات المجنونة، أقرأ كتابك وأستنير بأفكارك، علميني حب الوطن.. حب اللغة.. حب هذه الأمة. كيف لنا أن نحب أوطاناً باتت جحيماً، والعرب بين مريض من فرط الجوع ومريض من فرط التخمة، لقد تمزّقنا وتفرّقنا، كيف نعيد الأمل والحياة؟! صحيح أنني لم ألقاكِ، ولكن للقيا الكلمات وقع أشد على القلب أحياناً من لقيا الوجوه، فلا تظني أن إبداعك لكِ وحدكِ، بل هو لنا جميعا مرجع وبوصلة، إن تأثيرك تخطَّى حدود الجغرافيا، فعبر حواجزَ العقول الضائعة والقلوب المريضة.

سلام عليكِ أينما كنتِ في وطنكِ نخلة باسقة، فروعها تصل إلى سماء الحرية والوطنية. لا، لم يكن المناضل علال الفاسي مخطئاً عندما قال: "هذه ابنتي، ابنة المغرب"، فالتراب المغربي فخورٌ بكِ، كيف لا؟، وأنا من أقاسي المشرق أكتب لامرأة قدوة صنديدة. 

أنت وجه المغرب الرائع، أسيرُ خلفكِ ولستُ أدري أنكِ أنت "خناتة" مَن ناصرتِ قضايا أمتك وقضايا المرأة، دافعتِ عنها دون إسفاف وجهل وانحلال.

كم هو جميل هذا الاعتدال، في وقت تطرَّفتْ فيه الأنوثة، وضاعت المبادئ، وتعدَّدت الأطياف والأرقام، لابد أنكِ تراقبينَ وحالُ أمتنا لم يختلف كثيراً منذ صدور كتابك الأول "ليسقط الصمت" عام 1967، رغم الغضب بات الصمتُ متأصلاً بنا، حتى نخرتنا سوسة التطبيع بجنود الإعلام المعادي.

ثمانون عاماً يا خناتة وأنتِ بهيةُ المغرب وثروته -ودعنا نحفظ الألقاب- وسنوات عمركِ تقاس بعطائها الذي لا ينضب، فأنت القريبة إلى فؤادي، ومثال للمرأة التي بحثتُ عنها فكانت مزهرةً هناك في المغرب. فهل مدينتك فاس هي السبب؟ فاس العاصمة الروحية للبلاد، فاس العتيقة، المشبَعة بعبق التراث والتاريخ والحضارة، يكفي أنها المدينة التي دشَّنت أول جامعة في العالم "جامعة القرويين".

ولكن بين فاس وعائلتكِ التي ناضلت ضد الاحتلال الفرنسي، وأجدادك الذين هُجّروا قسراً من الأندلس، لابد أن تكون خناتة "النخلة المغربية".

عذراً.. دعيني أكتب لكِ وأُطيل الرسالة، وأعبّر بكل ما في مهجتي من تساؤلات، وأشارككِ الأفكارَ والقضايا، فأنتِ الأدرى بحال الأنثى عندما تكتبُ، فالشوقُ يُحيط بي، وحُلم لُقياكِ يراودني مهما طالت المسافاتُ وتعقَّدت الظروف…

أيتها الأنثى المغربية، السيدة الفاضلة، هل وصل إلى مسامعكِ رمي المغربيات المُحصَنات وتشويه صورتهن؟ متى كان للشواذ في المجتمع يا سيدتي قاعدة؟ إنه الافتراء بعينه… التراب المغربي أنجب خيرة نساء العرب والإسلام والعالم.

 لماذا نسيَ الناسُ مكانةَ المرأة المغربية في صُنع تاريخ المغرب وتسيير البلاد؟! لقد أنصف التاريخُ والمؤرخون دورَ المرأة، ولكنَّ أبواق الفتنة أصرَّت أن تجعل منها مكسر عصي للخلافات، فلِمَا لا يذكرون كنزة الأوروبي، ابنة زعيم قبيلة أوربة الأمازيغية العريقة، ودورها الكبير في إرساء قواعد دولة الأدارسة، كل هذا رغم اغتيال زوجها.

فالمرأة المغربية مجاهدة قوية مثلك يا خناتة، فليعودوا إلى التاريخ ويسألوا ابن خلدون وابن الأثير عن زينب النفزاوية، وحِكمتها في إرساء الدولة المرابطة، حتى قال فيها ابن الأثير كانت من أحسن النساء، ولها الحكم في بلاد زوجها ابن تاشفين. وماذا عن فاطمة الفهرية، الغنية عن التعريف، العالمة التَّقية التي اتَّخذت المساجد سُلَماً للمجد، وأعادت بناءَ جامعة القرويين، وساعدت في نشر العلم والمعرفة.

أبواق الجاهلين لن تُسكتها أعدادُ المتعلمات والحافظات لكتاب الله، ولن تَصُدَّها أمهاتٌ ضحَّين وسهرن على أبنائهن، الجميع مُدرك للحقيقة، ولكن من أطاح بشرف النساء لأجل خلاف أو سياسة هو الناقص في العقل والنفس والدين، وعليه لعنة من الله.

"قضيتي ليست قضية التحدي وإثبات الذات، أنا امرأة عادية، صادقة في اختياراتي، متبنية قضايا وطني وهذه الأمة".

هي كلماتك يا خناتة، أنت التي رفضتِ أن تكوني نموذجاً للمرأة المغربية، لكنكِ تستحقينها بجدارة، تلك هي المرأة المغربية صاحبة العنفوان والتواضع.

لا أعلمُ ما يدور في خَلَدك مِن تساؤلات، ولكن أعلم أنك غاضبة مثلي تماماً؛ لأن المرأة ليست أداةً للمعايرة وصبّ الغيظ والمؤامرات، إنها الأرقى والأجمل في هذه الدنيا الكالحة.

أتعلمين.. تستهويني آراؤك المنصفة الواعية، وكأنكِ عقدتِ مصالحة توازُنٍ في قرارة نفسك، فلو اتَّزن العقلُ والروحُ أمكن للبشر رؤية الحقيقة في شتّى المجالات، المرأة تمر بمرحلة تتعثر فيها، وربما تتيه عن نفسها وأسرتها وبيئتها، منهن من يتأثرن بالغرب والحضارة الغربية، متناسيات الغنى في بلدهم الأم، كمن يستبدل الذي هو أدنى بالذي هو خير، وأنتِ الأدرى مني والأفصح بتلك القضية، لأنكِ تصلحين لتكوني عرابةً لكل امرأة حرّة… لم تأخذي حقكِ يا خناتة، أين الصحافة والإعلام منك؟! لا أعرف لما غضوا البصر عن أمثالك من الأديبات الشريفات، بينما تجحظ الأعين تجاه شواذ من النساء هنّ ضحية المجتمع… أتعلمين لماذا؟ لأنكِ لم تخرجي من البيت الغربي، لم تتأثري بأفكار فرنسا وأخواتها.

ولم تكتبي يوماً عن حرية المرأة الجامحة، ولم تصوّبي قلمكِ تُجاه عاداتِ بلدكِ، ولم تسخري من تقاليدكِ، أنتِ الابنةُ البارّة، وُلدتِ، درستِ، صمدتِ هنا على أرض المغرب، ولكنكِ تعرفين القاعدة: "الشهرة لأصحاب الفكر الغربي".. الناس، المجتمع، الصحافة سيكتبون ويتحدثون عن هؤلاء… ولكن أنتِ يا خناتة من ستبقين في قلوب الشرفاء، يكفي أنك قدمتِ علماً وثقافةً رصينة أمام الله وشعبك وأُمتك.

"أنا نخلة مغربية طالعة من تراب هذه الأرض، سامقة لا أستظل لا بظل أوروبا ولا أميركا، مع أني أعترف بأني تلميذة للفكر والإبداع الإنساني أينما كان".

هذه أنتِ، يكفي تفانيكِ واعتزازكِ هذا.. فهل سأكون يوماً يا خناتة شجرة معطاءة مثلك؟! ربما، ولكن أي الشجرأنفع؟

هل أتاكِ حديث فلسطين؟ وغزة والقدس؟ كان لكتابك الأول "الصمت والاختيار" روح من الغضب تجاه القضية، والتي كانت في أوجها، وما زالت ساخنة، لكن التخاذل بات أقبح، وأصوات المطبّعين وأشباه الرجال أعلى.

هل سمعتِ عن صفقة القرن المشينة؟ أي زمان هذا يا خناتة؟! لم تمُت فلسطين، بل هم الذين ماتوا، أماتتهم الفُرقة والأطماع والدولار، وضعف شعورهم بالكرامة. فكما قلتِ: "لقد خُضنا معاركَ متعددةً وحدنا، وهم الذين سحبونا من الخطوط مدعين أنهم سيقاومون من أجلنا، ولكنهم بنوا سورَ القدس، مع أننا لم ننهزم أمام خمس مئة لغم يهودي في ليلة واحدة بالقدس القديم". هذه كلماتك منذ 50 عاماً، ومازالت القدس تنزف، لكنها ولادة للأبطال المرابطين.

كم أَغبطُكِ لأنَّ أقدامكِ حطَّت على تراب القدس يوماً مع والدك، أعلم أنكِ كنتِ طفلةً! وكانت العادة أن طريق الحج يمر بالقدس قبل كل شيء، وكم كنتِ نبيلةً حين تبرّعتِ بجائزة الكتاب المغربي عن روايتك "النار والاختيار" ومبيعاتها لدعم منظمة التحرير الفلسطينية، ولم تأخذي درهماً واحداً، نعم العالم أجمع يجب أن يعرف هذا، رغم معاتبتك المنظمة فيما بعد لدخولها في مسار مفاوضات مع الاحتلال الإسرائيلي. أُشاطركِ الرأيَ والجميعُ موقنون أن إسرائيل لا تخرج إلا بالقوة.

يا من لم تتواني بفكركِ الوطني والقومي والإسلامي عن دعم قضايا عدد من الشعوب المظلومة في العالم، من البوسنة والشيشان، إلى أفغانستان، إلى اللاجئين الصوماليين… شكراً، شكراً لكِ لأنك كنتِ صادقةً مع نفسكِ ومعنا، وآمنتِ بأهمية دور المثقف الفاعل في مجتمعه، المتبني لقضاياه ومصير وطنه.

شكراً لأنكِ ناصرتِ لغة القرآن، وقفتِ بجانب اللغة العربية بعد عدة نكبات ونكسات أصابتها، فرْنَستها حيناً أو استبدالها بالعامية حيناً آخر.. نعم إنها الخيانة، باتوا يَفرِّون منها ويشمئزون تماماً كَالْحُمُرِ المستنفرةِ تَفرُّ من قسورةٍ. اللغة العربية جديرة بالإتقان، لأنها لغةُ الجمالِ والحُبِ والنضالِ والعبادةِ… فهل نترُكُها؟! إنها قطعةٌ فنية من السماء، صدقتِ: "المرتدُّ عن لغتِهِ كالمرتدِّ عن دينِهِ".

في عالمٍ يملؤه الخداع والخيانة، عالم أصبحت فيه أمتنا مريضة، لا بل تأنُّ من فَرط الظلم والضياع، تسيرُ تائهةً بين المؤامرات وأصوات المنظِّرين والخائفين واللاجئين بملء الدنيا. إنه وطننا العربي يا خناتة الذي تقطَّعت أوصالُهُ… يقف عنده الباطل بكل فخر متباهٍ بنفسِه، فكم هو صعب أن يحيا الإنسان شريفاً صادقاً، يتشبّث بمبادئه وتراثه وأرضه في وقت للمال الكلمة الفصل.. أنت واحدة منهن، من شريفات المغرب المتفانيات، وكل من سار على هذه الخطا ربِحَ بيعُهُ، فأنتِ التي أقسمتِ وقلتِ: لو أعطوني ما بين الأرض والسماء ذهباً فلن أتغيّر!! دائماً وفيّة بمبادئي، بمواقفي، بقلمي، بمالي، بكلِّ ما أملكُ…

لن تكون رسالتي الأولى ولا الأخيرة، وللكلمة بقية…

هانم جمعة

أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

علامات:
هانم جمعة
كاتبة لبنانية مهتمة بالأدب والسياسة
حاصلة على ماجستير في الإعلام من جامعة بيروت العربية، مجازة أيضاً في التربية الرياضية، وعملت في عدة وسائل إعلام كمتدربة أو بالقطعة، ثم عملت في مجال التعليم والتدريب الرياضي، وكذلك لاعبة منتخب لبنان في كرة الطاولة، وأتطلع دائماً للعمل في المجال الإعلامي. وأطمح الآن لكتابة روايتي الأولى.
تحميل المزيد