الذاكرة هي إحدى القيم التي تعطي للزمن انسجامه واكتماله وتتفاعل بين ماض يتجدد، وحاضر عابر ومستقبل مفتوح للأبد، إننا "لا نقوم بطي الصفحات" بل نعيد قراءتها بانتظام
عالم المستقبليات الراحل المهدي المنجرة، من كتاب قيمة القيم
ماذا يخفي لنا المستقبل؟ لا أحد يعلم. المستقبل رهين بعوامل عدة، اقتصادية واجتماعية وسياسية. يبقى المستقبل رهين دروس الماضي ونوايا الأيام المقبلة التي تكتنزها الصدور وتخطها الأيادي. يقال إننا نحن من نصنع المستقبل، والدليل أننا تنقلنا من العصر الحجري لزمن الهاتف الذكي وندخل عصر الذكاء الاصطناعي بفضل الثورات الصناعية. لقد تمكنا من تحقيق طفرات لم نكن نخال يوماً أننا سنحققها. لكن بالرغم من ذلك ستبقى تفاصيل المستقبل دائماً مجهولة.
تلعب الذاكرة دوراً هاماً في بناء المستقبل، تقدم لنا الدروس على طبق متوازن كلما احتجنا لتغذية عقولنا بالأخطاء السابقة كيلا تتكرر، تمنح المؤشرات اللازمة لما يمكن أن يتحقق في المستقبل القريب أو البعيد وما لا يمكن أن يتحقق. وتمنح فرصة لإعادة ترتيب الأوراق ولتصحيح المسارات، بما أننا لم نخترع بعد آلة للزمن ترجعنا للماضي لنتمكن من محو غلطاتنا بالكامل.
في فيلم "Idiocracy" لمخرجه مايك جادج، يظهر العالم سنة 2500 بصورة مثيرة للضحك والشفقة في آن واحد. عالم، حسب ما جاء في الفيلم، سيكون النتيجة العكسية لكل التطورات التي توصل وسيتوصل إليها الإنسان. سيصبح الغباء مستشرياً في جميع مناحي الحياة دون استثناء، حتى في الزراعة التي ستصبح قائمة على المشروبات الطاقية بدلاً من الماء. لن يبقى أي مكان للعلم أو للعدالة ولا للقيم المجتمعية.. ستسود الفوضى. كل هذا سيكون نتيجة لصناعة الغباء وستصبح البشرية غير قادرة على حل أبسط الأمور، كتدبير النفايات مثلاً.
تلك صورة بعيدة تماماً عما نتوقعه للمستقبل الذي من المفترض أن يعرف تطوراً خيالياً للذكاء وليس للغباء. الفيلم يعطي بشكل ساخر صورة عما يمكن أن يكون عليه العالم إن ترك الإنسان عدداً من الإشكاليات تتفاقم ولم يجد لها حلاً، النظام العالمي المستقبلي رهين باليوم.
ولكن على عكس ما جاء في "Idiocracy" هناك أعمال وكتب أخرى تتنبأ بالتطور الذي ستعرفه البشرية بفضل الذكاء الاصطناعي. كتاب "حرب الذكاءات" مثلاً لكاتبه الفرنسي لوران ألكسندر يتحدث عن أربع مراحل للذكاء الاصطناعي عَرَفَتْ أو تَعْرِفُ معها الإنسانية تحولات جذرية.
. المرحلة الأولى الممتدة من 1960 إلى 2010، ارتكزت على برمجة يدوية بسيطة ومعادلات أو لوغاريتمات أولية.
. المرحلة الثانية بدأت سنة 2012، وتجسدت في ظهور وتطور Deep Learning.
. المرحلة الثالثة ستظهر ابتداءً من سنة 2030، وسيكون خلالها الذكاء الاصطناعي سياقياً قادراً على فهم الظروف والتأقلم معها، ستصبح لديه ذاكرة.
. المرحلة الرابعة والأخيرة ستبدأ انطلاقاً من سنة 2050، وسيكون خلالها الذكاء الاصطناعي قد طور ضميراً اصطناعياً وسيصبح قادراً على الإحساس بنفسه واستشعار كل ما حوله، الأمر الذي سيطرح إشكالية الأمن بالنسبة للإنسان. إشكالية تحدثت عنها في القرن السابق الروائية الإنجليزية ماري شيلي عندما قدمت شخصية فيكتور فرانكنشتاين، العالم الذي أراد صنع شبه إنسان فلم يصنع سوى وحش كان هو نفسه أول الهاربين منه ناسياً أنه خوله شيئاً من الذكاء، فقرر المخلوق الغريب الانتقام منه ومن البشر جلهم. الإشكالية نفسها يتناولها المسلسل المصري "النهاية" لمخرجه ياسر سامي حيث سيشكل الإنسان الآلي تهديداً حقيقياً لحياة البشر إلى جانب مشكلات أخرى مستقبلية من ضمنها أزمة الطاقة والأمن الغذائي والتعليم الانتقائي والحروب حول السلطة.
عودة للوران ألكسندر، يشرح المفكر الفرنسي في كتابه نوعين من الذكاء الاصطناعي: الأول "ضعيف" مُتَحَكَّم به، يُطَبِّق فقط ما اختار الإنسان أن يعلمه. والنوع الثاني "قوي بل وخارق" ويخرج عن السيطرة (سيناريو وحش فرانكنشتاين) لأنه يصبح كامل الإدراك. ويُطَمْئن الكاتب بأن هذا النوع الأخير لن يكون له وجود في المستقبل القريب.
كل هذه المعطيات تنذرنا بأن أفلام الخيال العلمي الأمريكية التي تتنبأ بتصاعد أعداد "الروبوتات" ليست بعيدة كل البعد عن الواقع. وبأنه سيكون للحياة في المستقبل وجه آخر لم نعرفه بعد اليوم، فحسب خبير الاقتصاد العالمي جيريمي ريفكين، في كتابه "نهاية العمل"، سيعرف العمل ضموراً حقيقياً مع اختفاء ملايين الوظائف التي سيتوجب تعويضها، أو على الأقل التفكير في بدائل أخرى لها، وذلك بسبب تطور الآلة والتكنولوجيات الحديثة.
الأهم في كل هذا أن نكون واعين بأن إشكاليات الغد مختلفة عن إشكاليات اليوم، وبأن تظافر الجهود يجب أن يأخذ منحاً إيجابياً لأن الحضارة الجديدة ستكون قائمة على الذكاء الاصطناعي شئنا ذلك أم أبينا. وبالأخير فإن التخطيط لكل هذه المتغيرات يبدأ من الآن إن نحن أردنا بناء مستقبل أفضل، ولكيلا ينقلب السحر على الساحر.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.