سيعقد التجمع في منتصف ساحة الكولوسيوم حول طاولة تشمل الجميع، دون التنافس من أجل ناجٍ وحيد، إذ لن يكون هناك قتال يتطلب إخضاع الآخر وقتله.
في حلبات الموت الرومانية -الكولوسيوم- حظوظ البقاء للأصلح، القادر على التكيف مع المراحل الزمنية للصراع، وتحمل الألم، وباقي صفات المحارب الصلب الذي سيرفع سيفه منتصراً ويهرب مع الأميرة زوجة الملك، في نهاية الفيلم.
هل يمكن للمؤلف العبث بتلك الحبكة، وجعل الساحة مكاناً للاحتفال، فقد اكتفى العالم من المنافسة.
يبدو العالم الحالي أقربَ لصراع داروينيّ يُرجح مبدأ "البقاء للأصلح"، تلك الفكرة المقبولة في حال كنا تحدَّثنا عن أرض غير أرضنا، فقيرة الموارد، تتطلب النجاةُ فيها القتالَ بين مجموعة وأخرى، أو بين أفراد نفس المجموعة. لكن ماذا لو كنا نلمس حولنا ملايين الخيارات، وفرة في الطعام، وفرة في المنتجات، لم يعد يحتاج أيٌّ منا الإمساكَ برمح واصطياد الحيوان المارّ أمامه، فقد تجاوز البشر تلك المرحلة، لكن ماذا عن رواسبها؟
يعود منشأ مصطلح البقاء للأصلح للفيلسوف هربرت سبنسر، حيث أطلقه للربط بين نظرياته الاقتصادية ونظرية التطور، اقترح ألفريد راسل والاس في رسالة لداروين استخدامه بدلاً من مصطلح "الانتقاء الطبيعي".
كتب داروين: "على الرغم من أن الطبيعة تمنح فترات زمنية طويلة للانتقاء الطبيعي، فإنها لا تمنح فترة غير محددة؛ لأن جميع الكائنات العضوية تسعى إلى الاستيلاء على كل مكان في اقتصاد الطبيعة، إذا لم يتم تعديل وتحسين أي نوع في درجة مماثلة مع منافسيه فسيتم القضاء عليه".
يلاحظ التشابه بين الطريقة التي يعمل بها اقتصاد السوق الحر وعملية الانتقاء الطبيعي لنظرية التطور، هناك حالة من الانعقاد الدائم للمنافسة، رغبةً في البقاء.
بينما استمرَّ العالَم في تصديق الصراع والتنافس كحقيقة لا يمكن المساس بها، والاندماج في خضمها يداً بيد مع التناغم بأقوال نهاية التاريخ وموت الإنسان، جاءت جائحة كورونا ليؤكد الفلاسفة المعاصرون مثل إدغار موران، وسلافوي جيجيك، ورافاييل ليوجييه وغيرهم، أن العالم يتجه نحو تغيير نظرة الفكر الإنساني إلى قضايا تمسّ الإنسان، والتقنية، والسياسة، والاقتصاد، والوجود بصفة عامة، أو على الأقل فتح طريق جديد للتفكير، لا يرى فيه الإنسان أخاه الإنسان على أنه وسيلة.
قد يكون السؤال الذي يشغل الجميع حالياً، متى تعود الحياة لطبيعتها؟ لكن هل بالإمكان التساؤل عن الحياة الطبيعية؟
قصة الصياد ورجل الأعمال
بينما كان يجلس رجل أعمال على شاطئ قرية برازيلية صغيرة، رأى صياداً برازيلياً يغادر الشاطئ بعد أن اصطاد عدداً قليلاً جداً من الأسماك الكبيرة، تعجَّب الرجل وسأل الصياد: "كم من الوقت يستغرق اصطياد الكثير من الأسماك؟"
رد الصياد: "فترة قصيرة."
تعجب، فسأله: "لماذا لا تبقى إذن لفترة أطول في البحر وتصطاد أكثر؟"
قال الصياد: "هذا يكفي لإطعام عائلتي بأكملها".
ثم سأل رجل الأعمال "إذن، ماذا تفعل بقية اليوم؟"
رد الصياد: "حسناً، أستيقظ عادةً في الصباح الباكر، وأخرج إلى البحر وأصطاد بعض الأسماك، ثم أعود وألعب مع أطفالي. في فترة ما بعد الظهر آخذ قيلولة مع زوجتي، وعندما يأتي المساء التحق برفاقي في القرية لتناول مشروب، فنحن نعزف على الغيتار ونغني ونرقص طوال الليل".
سأله الصياد: "وأنت، ماذا تعمل؟"
فأجاب: "أنا متخصص في إدارة الأعمال، يمكنني مساعدتك لتصبح شخصاً أكثر نجاحاً. في حالتك عليك قضاء المزيد من الوقت في البحر ومحاولة صيد أكبر عدد ممكن من الأسماك، عندما توفر ما يكفي من المال يمكنك شراء قارب أكبر وصيد المزيد، ستتمكن قريباً من شراء المزيد من القوارب، وإنشاء شركتك الخاصة، ومصنع الإنتاج الخاص بك لشبكة الأغذية المعلبة والتوزيع. بحلول ذلك الوقت ستكون قد انتقلت من هذه القرية إلى ساو باولو، حيث يمكنك إعداد المقر الرئيسي لإدارة فروعك الأخرى".
الصياد : "وبعد ذلك؟"
أليس هذا ما يفعله الصياد؟
في قصة باولو كويلو يمثل رجل الأعمال تجسيداً عملياً لمقولة "البقاء للأصلح"، أما الصياد فيحيا بتناغم مع ما يملك. وإذا اختار الابتعاد فسيأتي ذلك على حساب انسجامه مع رغبته في الحياة، هو حر بالفعل ولا يحتاج لزيادة التعقيد والتحدي؛ إذ تنبع حريته من عدم الحاجة إلى أي شئ آخر غير الذي يكفيه.
يعيش رجل الأعمال وغيره لِما لم يأتِ بعد، للمستقبل. لذلك كانت الحياة الطبيعية قبل جائحة كورونا غير كافية. أما عقلية تتسمك بالندرة في عالم وفير فترتبط حريتها بما تمتلك، لا تلهث جراء الركض وراء الامتلاك والربح.
يوفر التفوق في السباق والانتصار في المنافسة جمع الموارد الكفيلة بالتحرر والنجاة في عالم الندرة، لكن في عالم الوفرة ستتحول المنافسة إلى نقيض الحرية. ذلك الشعور الذي لا يمكن استشعاره وتجربته إلا إذا انسجمنا كالصياد. نحن أحرار بامتلاك ما يكفي لخلق معنى ورغبة في الإبداع والتطور دون منافسة.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.