بعدما كرمت دول أوروبية عدداً من الشخصيات لعشرات ومئات السنين وصنعت لها التماثيل وأغرقت بها شوارعها، خرج أبناؤها ليحطموا بغضب "تماثيل رموز العنصرية". انفجر هذا الغضب بين عشية وضحاها، وتحديداً في 25 مايو/آيار 2020، بعدما رأى العالم مشهداً قاسياً في مدينة مينيابولس الأمريكية، حيث كتم ضابط شرطة أنفاس المواطن الأمريكي من أصل إفريقي جورج فلويد حتى قتله تحت قدميه.
الجريمة الوحيدة التي رآها الجميع من أول ثانيةٍ هي العنصرية، ما أثار حنقاً في الشارع الأمريكي على كل من ساهم يوماً في تعضيد العنصرية وتقوية نظرية "تفوُّق العرق الأبيض على غيره من الأعراق"، ثم انتقل الغضب إلى بريطانيا، ثم بلجيكا، حيث تكرر مشهد واحد اختلف فيه الأبطال والأشرار؛ يغرق المتظاهرون الغاضبون تماثيل شخصيات تاريخية باللون الأحمر (لون الدم)، ثم يحطمونها، وأحياناً يلقون بها في البحر أو يحرقونها.
السؤال هنا: مَن هي الشخصيات التاريخية التي كُرمت في نُصب تذكارية وتماثيل لسنوات طويلة، ثم حُطمت في ثوانٍ؟ وما هي الجوانب المظلمة من تاريخها التي غفل عنها مَن أقاموا لها النصب وتذكرها جيداً مَن حطموها؟
تماثيل رموز العنصرية: كريستوفر كولومبوس في أمريكا
سبب إقامة تمثال له: اكتشاف القارة الأمريكية
سبب الإطاحة بالتمثال: قتل الهنود الحمر وسرقة ذهبهم
الرحالة الإيطالي كريستوفر كولومبوس (1451 – 1506) الذي اكتشف القارة الأمريكية، دخلها حرفياً على أشلاء ودماء أهلها. فقد سجلت كتب التاريخ فظائع ارتكبها كولومبوس ومموِّلو رحلته الاستكشافية (الإسبان) ليكون أحد رموز العنصرية. (كولومبوس كان محباً للاستكشاف وأراد اكتشاف طريق آخر يمكّن الأوروبيين من الوصول للهند، بعدما منعت الإمبراطورية العثمانية الأوروبيين من العبور عبر مدينة القسطنطينية (إسطنبول حالياً)، وإلى شمال إفريقيا والبحر الأحمر، فعرض على البرتغاليين تمويل رحلته كونهم قادة "عصر الاكتشافات" وقتها، لكنهم لم يثقوا بخطته. فذهب للإسبان الذين وافقوا على تمويل رحلته ومنحوه 3 سفن شريطة اكتشاف الطريق الجديد، كما وقع اتفاقاً ملكياً يقضي بمنحه رتبة أمير البحار والمحيطات، و10% من الذهب والبضائع التي سيحضرها معه دون أية ضرائب حال اكتشاف مناطق جديدة. وبدأ رحلاته الاستكشافية الأربع).
فحين دخل الإسبان إلى "العالم الجديد" تحت قيادة كولومبوس للمرة الأولى، كان الهنود يخرجون لاستقبالهم عند مداخل المعابد ويشعلون ناراً ويلقون فيها الذهب، لأنهم كانوا يظنون أن المسيحيين القادمين إلى أراضيهم هم أبناء الشمس، لكن أبناء الشمس أولئك لم يحتفوا بالهنود بالطريقة ذاتها، فقد سلبوا أراضيهم وذهبهم، وحينما حاول الهنود المقاومة، أخضعهم جنود كولومبوس بقوة السلاح وقتلوا واغتصبوا آلافاً منهم.
كان على كل هندي تجاوز عمره الـ14عاماُ جمع كمية معينة من الذهب للإسبان كل 3 أشهر، وإن لم يفعل كان عليه مواجهة العذاب الذي يصل إلى بتر الأيادي وتعليقها لتتدلى من أعناقهم، ثم الموت بتركهم ينزفون حتى الرمق الأخير. وقد قتل بهذه الطريقة أكثر من 10 آلاف شخص من الهنود الحمر، وفقاً لما استعرضه كتاب Columbus: The Four Voyages للكاتب السويدي لورنس بيرجرين الذي بحث السيرة الذاتية لكولومبوس.
جشع جنود كولومبوس لم يقف عند هذا الحد، فانتزعوا الذهب والزمرد من بطون الموتى؛ إذ تقضي الطقوس الدينية الخاصة بالهنود الحمر بدفنه في بطون الموتى، كما سن كولومبوس سُنته السيئة في جنوده، سواء في استعباد الهنود للعمل بلا مقابل أو في أسر السبايا واغتصابهم.
ففي رحلة كولومبوس الثانية، أهدى امرأة كاريبيّة لطاقم السفينة كي يغتصبها، وأصبح هذا الطقس جزءاً من كل إغارة جديدة، حيث يختطف الإسبان النساء والفتيات ويغتصبونهن أو يبيعونهن للاسترقاق الجنسي، وعندما وطئت قدماه أراضي القارة الأمريكية أمر بالقبض على 6 هنود ليصبحوا خدمه الشخصي، ورأى أنهم "سيكونون خدماً جيدين طوال مدة إقامته"، وبدأ بعدها جنوده في استرقاق بعض الهنود وبيعهم كعبيد، وفق موقع History التاريخي.
أما في حال تمرَّد أحد الهنود على هذه المعاملة غير الآدمية، كان الإسبان يلجؤأن إلى الكلاب الشرسة لتمزيق المتمرد أمام الباقين، ثم تترك الجثث المتمزقة في الميدان حتى تتفسخ، ليعلم الجميع ما هي عاقبة التمرد، فضلاً عن عقوبات أخرى تقضي بتقطيع الآذان والرؤوس.
هذه العنصرية لم يتحملها بعض الهنود فبدأوا في تدمير مخازن الخبز، فلا يأكل منها المستعمرون لأراضيهم ولا حتى هم أنفسهم، فيما لجأ آخرون للانتحار الفردي أو الجماعي كسبيل للخلاص من هذا العذاب، إذ قتل البعض نفسه بالقفز من المنحدرات العالية، فيما سمم بعضهم الآخر نفسه بالأعشاب، وآخرون جوعوا أنفسهم حتى الموت، ووصلت أعداد المنتحرين إلى 50 ألفاً، وفق الكتاب الذي استعرض موقع VOX الأمريكي مقتطفات منه.
فنون العذاب تنوعت، وكذلك فنون القتل -أو بتعريف أدق- الإبادة الجماعية. فبعد رحلة كولومبوس الأولى بـ 56 عاماً، يقال إن عدد مَن تبقى من الهنود على قيد الحياة في جزيرة هيسبانيولا، وهي ثاني أكبر جزر الأنتيل، وتقع شرقي كوبا، وصل إلى 500 فقط من أصل 300.000 كانوا يعيشون هناك. وقد وصل كولومبوس في البداية إلى منطقة البحر الكاريبي، بما في ذلك جزر البهاما، وكوبا، وسانتو دومينغو، وجامايكا، ثم في رحلتيه الأخيرتين اكتشف جزيرة هيسبانيولا، وتوسع إلى أن وصل إلى شرق أمريكا الوسطى وشمال أمريكا الجنوبية، لكنه لم يصل إلى أمريكا الشمالية، وإن سهّل طريق الوصول لها.
إدوارد كولستون – بريطانيا
سبب إقامة تمثال له: تبرعه بثروته لصالح الأعمال الخيرية
سبب الإطاحة بالتمثال: جني الثروة من تجارة العبيد
من أمريكا إلى بريطانيا، حطم البريطانيون تمثالاً عمره قرن وربع لشخصية تاريخية أخرى وهو تاجر العبيد إدوارد كولستون ( 1636 – 1721). (التمثال بني في مدينة بريستول عام 1895، أي بعد 88 عاماً على سن قانون برلماني يلغي تجارة الرقيق)
في الأصل، هذا الرجل الذي يطلق على اسمه عشرات المدارس والمباني والمؤسسات الخيرية وتوضع له التماثيل في الشوارع مثالاً لرجل أعمال ناجح يحب الأعمال الخيرية، لكن كان له عمل آخر غير إنساني أو خيري بالمرة واعتبر هو الآخر أحد رموز العنصرية.
هذا الرجل فاحش الثراء، وُلد لعائلة معروفة بتجارة النبيذ والفاكهة والمنسوجات في إسبانيا والبرتغال، وكان عضواً في البرلمان وممولاً كبيراً للأعمال الخيرية، لكنه في الوقت نفسه كان شريكاً في الشركة الإفريقية الملكية التي كانت تنقل الأفارقة إلى أمريكا للاتجار بهم واستعبادهم.
إذ كان ينقل الأطفال من عمر السادسة وحتى الرجال والنساء من غرب إفريقيا إلى جزر البحر الكاريبي لبيعهم في القارة الأمريكية ليعملوا بأسعار زهيدة في مزارع التبغ والسكر والقطن، فكان هناك اعتقاد أن الأفارقة أكثر ملاءمة لهذه المهام من المواطنين الفقراء لقدرتهم على تحمّل الأجواء المناخية الحارة.
رحلات النقل كانت سيئة إلى حد أنه كان يموت تقريباً واحد من كل 5 أفراد ينقلهم كولستون عبر المحيط الأطلسي، فيما يتحمل مسؤولية بيع أكثر من 84 ألف رجل وامرأة وطفل، ووفاة 19 ألفاً آخرين أثناء نقلهم، وذلك في أقل التقديرات التي تتبناها المواقع البريطانية، على رأسها هيئة الإذاعة البريطانية BBC.
لكن على الجانب الآخر من حياة كولستون، فإنه استخدم الأموال التي جناها من تجارة الرقيق ليؤسس مدارس ومستشفيات وكنائس ومشاريع أخرى في مدينته بريستول -هو السبب الذي يفسر تسمية معالم عدة باسمه في المدينة- إذ أوصى بصرف ثروته على الأعمال الخيرية في بريستول وأجزاء أخرى من إنجلترا. وقد وصلت ثروته إلى 71 ألف جنيه إسترليني، أي نحو 10 ملايين دولار من أموال اليوم، وفق مجلة Time.
الملك ليوبولد الثاني – بلجيكا
سبب إقامة تمثال له: حكم بلجيكا 44 عاماً (1885 – 1909)
سبب الإطاحة بالتمثال: إبادة 10 ملايين من شعب الكونغو (50% من الشعب)
في بلجيكا أيضاً شوّه وكسر تمثال الملك ليوبولد الثاني (1835 – 1909) الذي كان يطمح إلى تأسيس إمبراطورية بلجيكية ولو على جثث 10 ملايين من شعب الكونغو. في ظل تنامي نفوذ جاراته ألمانيا وفرنسا وجد ليوبولد في وسط إفريقيا السبيل لتعزيز نفوذ دولته هو الآخر، ووجَّه عينه إلى الدولة الغنية بالموارد الكونغو.
ليوبولد مستعمر، لكنه لم يدخل الكونغو تحت اسم الاستعمار، خاصةً أن الاستعمار كان سيكون مكلفاً بالنسبة لدولة صغيرة حدودها البحرية ضيقة، لذلك لجأ إلى خطة بديلة، حيث قدم نفسه على أنه فاعل خير، يريد جلب مزايا الحضارة الغربية والتجارة ونشر المسيحية لتوعية السكان الأصليين، لكنه خدعهم ثم استغلهم وأخيراً قتلهم ونهب ثروة بلادهم.
على مدار 5 سنوات، استطاع رجل الملك في إفريقيا، المستكشف هنري مورتون ستانلي، بناء طرق وإنشاء نقاط تجارية في الكونغو، كما أقنع القادة المحليين الأميين بتوقيع اتفاقيات ومعاهدات مع ليوبولد، وهنا خدع الملك قادة الأراضي التي كانت تبلغ مساحتها 72 مرة ضعف مساحة بلجيكا.
إحدى المعاهدات تنص على: "في مقابل قطعة واحدة من الملابس في الشهر، تُقدم إلى كل من زعماء القبائل الموقعين أدناه، بالإضافة إلى هدية من الملابس لكل منهم، يتخلى زعماء القبائل طوعاً ومن تلقاء أنفسهم، وورثتهم وخلفاؤهم للأبد… عن كافة حقوقهم في جميع أراضيهم إلى "الجمعية" (بزعامة ليوبولد)… ويلتزمون بتوفير ما يُطلب منهم من عمالة، أو غير ذلك من الأعمال أو الإصلاحات أو الحملات العسكرية التي تعلنها "الجمعية" في أي وقت، وفي أي جزء من هذه الأراضي… كل الطرق والممرات المائية التي تمر في هذا البلد، والحق في تحصيل الرسوم عنها، وجميع حقوق صيد الحيوانات والأسماك، والتعدين، والغابات، تكون ملكيةً مطلقةً للجمعية".
هنا، بدأت استفادة بلجيكا من موارد الكونغو رغم أنف أهلها. فكان على المواطنين أن يعملوا بالسخرة لجمع حصة يومية من أشجار المطاط في الغابات المطيرة لتستخدمها بلجيكا في صنع ثروتها بعد اختراع العجلات القابلة للنفخ وعجلات السيارات، وكان الكثيرون يموتون تحت وطأة ظروف العمل الصعبة في الغابات مع نقص الطعام والشراب، لأن من يفشل يواجه مصيراً مأساوياً آخر، فقد تقطع يداه، وتشوه أعضاؤه التناسلية، أو تؤخذ نساء أسرته رهائن أو تغتصب، أو يعذب حتى الموت، أو يقتل.
ونتيجة لحملات ليوبولد القاسية، وإجبار الأصحاء على العمل بالسخرة، وترك الأطفال والنساء والعجائز وحدهم في القرى، ظهرت مجاعات، كما تفشت أوبئة مثل السل والجدري وأمراض الرئة وتسببت كل هذه الظروف في وفاة ما يُقدر بـ 10 ملايين كونغي، أي نصف عدد سكان الكونغو وقتها، وفق موسوعة Encyclopædia Britannica.