كان عمره 35 عاماً فقط عندما تسلم جائزة نوبل للسلام، ليصبح أصغر من يتلقاها، ولكن بعد 4 أعوام فقط تعرَّض للاغتيال، بعدما أحدث زلزالاً في العلاقات العرقية في أمريكا.. هو مارتن لوثر كينغ، الناشط الأمريكي الأسود الذي دفع حياته ثمناً لمطالبته بتطبيق المساواة بين البيض والسود.
يعتبر مارتن لوثر كينغ جونيور (15 يناير/كانون الثاني 1929-4 أبريل/نيسان 1968) رمزاً قومياً للأمريكيين من أصل إفريقي، وما زالت كلماته وخطاباته تُردد حتى هذه اللحظة، تشعلها من جديد حادثة وفاة جورج فلويد على يد شرطي أبيض، بعدما جثا على عنقه لمدة 8 دقائق.
كان مارتن لوثر كينغ رجلَ دين وناشطاً في مجال الحقوق المدنية منذ منتصف الخمسينيات. من بين جهوده العديدة، أنه ترأس مؤتمر القيادة المسيحية الجنوبية (SCLC)، الذي شكَّل مُنطلقاً شعبياً لإدارة الحراك والمظاهرات.
من خلال نشاطه وخطاباته الملِهمة، لعب دوراً محورياً في إنهاء الفصل القانوني بين المواطنين الأمريكيين من أصل إفريقي، بالإضافة إلى إنشاء قانون الحقوق المدنية لعام 1964، وقانون حقوق التصويت لعام 1965.
طفولة مارتن لوثر كينغ
كان والد مارتن رجل دين، آمن بأن العنصرية بين الأعراق أمر يخالف إرادة الله، لذا كان يعارضها، وحرص على ألا يستسلم أولاده للأفكار التي تروّج لتفوّق عرق دون آخر.
كان كينغ متفوقاً في دراسته، لدرجة أنه تخطَّى آخر عامين في الثانوية العامة لينضم للكلية حين كان عمره 15 عاماً فقط.
تخصَّص في الدراسات الاجتماعية والدينية، ليترأس مجلس الطلاب في جامعة بنسلفانيا.
استكمل دراساته العليا ليحصل على شهادة الدكتوراه من جامعة بوسطن، حيث تعرّف على زوجته الفنانة الصاعدة كوريتا سكوت، التي سينجب منها 4 أطفال: يولاندا، مارتن لوثر كينغ الثالث، وديسكتر، وبرنيس.
كان عمره 25 عاماً فقط عندما أنهى شهادة الدكتوراه.
بداية النضال ضد العنصرية
في 1 ديسمبر/كانون الأول العام 1955، تعرَّضت السيدة السوداء روزا باركس للاعتقال، بعدما رفضت التخلي عن مقعدها كي يجلس رجال بيض في مكانها.
عندها قرَّر كينغ، بالتعاون مع قائد كنيسة محلي وناشط يُدعى "اي دي نيكسون"، أن يُطلقا حركة مقاطعة باصات مونتغومري.
أثمرت الخطة عن 382 يوماً من مقاطعة مواصلات النقل العامة، وتعرُّض المشاة السود للمضايقات والتحرش، حتى إن منزل كينغ شخصياً تعرض للاعتداء.
وأخيراً، انتصرت حركة المقاطعة بعد عدة دعاوى ضد بلدية المدينة، وصلت إلى المحكمة العليا التي ألغت قانون الفصل بين العرقين.
الاحتجاجات السلمية تيمناً بغاندي
بعد هذا الانتصار، أسَّس كينغ مع قادة مدنيين ورجال دين ما يسمى بالمؤتمر المسيحي الجنوبي لتنظيم تحركات كنائس السود، وتنظيم احتجاجات سلمية لتعديل القوانين المدنية.
متأثراً بمقاومة الزعيم الهندي غاندي المناهضة للعنف، زار كينغ العام 1959 مسقط رأس غاندي في الهند.
كان لتلك الزيارة تأثير معنوي بالغ عليه، وزادت من عزيمته لمناهضة القوانين العنصرية.
في العام 1960 دخل كينغ و75 من أنصاره إلى متجر في أتلانتا، وطالبوا بوجبة غداء، عندما رفض صاحب المتجر، تم اعتقالهم جميعاً.
إلا أن محافظ المدينة تخوّف من الحملات الإعلامية، فقرَّر إطلاق سراحهم جميعاً، لكن سرعان ما أُلقي القبض من جديد على كينغ بسبب مخالفة سير.
خبر اعتقاله تم توظيفه في الحملة الانتخابية الرئاسية آنذاك، والتي كان مرشحها جون إف كينيدي، الذي اتصل بزوجة كينغ واعداً بممارسة الضغط السياسي لإطلاق سراحه، وهو ما تم.
"لديّ حلم"
تعرَّض كينغ للاعتقال لاحقاً أكثر من مرة، قبل أن يلقي في 28 أغسطس/آب من العام 1963 خطابه الأيقوني الشهير، أمام 200 ألف مناصر "لدي حلم".
كل الحراك المدني الذي كان يقوم به كينغ مع سائر الناشطين كان له تأثير جذري في الرأي العام الأمريكي.
وأدت هذه التحولات إلى إقرار قانون الحقوق المدنية لعام 1964، الذي يأذن للحكومة الفيدرالية بفرض إلغاء الفصل العنصري في الأماكن العامة وحظر التمييز في المرافق العامة.
أدّى ذلك أيضاً إلى حصول الملك على جائزة نوبل للسلام في عام 1964.
استكمل كينغ مسيرته في النضال ضد القوانين العنصرية في الستينات، ومن أشهر الحوادث مثلاً المسيرة التي كانت مقرَّرة من ميدنة سلمى إلى مونتغومري، والتي تحوّلت إلى اشتباكات عنيفة بين الشرطة والمتظاهرين.
لم يكن كينغ في المظاهرة، لكن المشاهد التلفزيونية صدمت الرأي العام فيما بات يُسمى "الأحد الدموي".
وفي مظاهرة أخرى شارك بها كينغ شخصياً على رأس 2500 مشارك أبيض وأسود، تواجه المحتجون مع عناصر من الشرطة، وبدلاً من الاشتباك أوعز كينغ مناصريه على الركوع والصلاة ثم العودة من حيث أتوا.
ولكن من جديد قرّر الناشطون تنظيم مسيرة من سلمى إلى مونتغومري، وهذه المرة بمشاركة كينغ في 21 مارس/آذار 1965.
تجمَّع نحو 25 ألف شخص، حيث ألقى كينغ خطاباً متلفزاً، أفضى عن توقيع الرئيس ليندون جونسون بعد 5 شهور فقط على قانون حقوق التصويت لعام 1965، والذي يمنع التفريق العنصري في الانتخابات.
لكن فلسفة كينغ الصبورة واللاعنفية وجذب المواطنين من الطبقة المتوسطة البيض، أدت إلى نفور العديد من الناشطين السود الشبان الذين اعتبروا أن أساليبه ضعيفة للغاية ومتأخرة وغير فعالة.
بعدها حاول كينغ توسيع رقعة نشاطه لتشمل تحالفاً مختلط الأعراق يخاطب التحديات الاقتصادية والبطالة وغيرها.
كما عارض الحرب الفيتنامية، وانتقد سياسات الحكومة الأمريكية "العنصرية" ضد الفقراء.
الاغتيال
مع حلول العام 1968، كان كينغ قد تعب من المشاركة في التظاهرات وتعرضه للاعتقالات والعيش تحت تهديد مستمر بالقتل، وشارك الانقسام بين مجتمع السود في إحباطه أكثر.
ولإنعاش الحراك، قرّر دعم إضراب عمال النظافة في مدينة ممفيس، وذلك عبر مسيرة بواشنطن في ربيع العام 1968؛ كانت تلك محاولته الأخيرة.
في 3 أبريل/نيسان من ذلك العام، ألقى كينغ ما يشبه خطاباً تنبوئياً مريباً، حيث قال: "لقد كنت في قمة الجبل، رأيت الأرض الموعودة. قد لا أصل إلى هناك معك، ولكن أريدك أن تعرف الليلة أننا كشعب سنصل إلى أرض الميعاد".
في اليوم التالي، وأثناء وقوفه على شرفة غرفته في فندق لوارين، قتل مارتن لوثر كينغ برصاص قناص يدعى جايمس إيرل راي.
كان عمره 39 عاماً فقط.
أثار الاغتيال أعمال شغب ومظاهرات في أكثر من 100 مدينة في جميع أنحاء البلاد.
اعترف راي بذنب اغتيال كينغ، وحُكم عليه بالسجن 99 عاماً بدون محاكمة.
ولاحقاً نفى تورطه، وهو ما أثار الشبهات -حتى يومنا هذا- حول وجود مؤامرة أكبر لاغتيال كينغ، لم يكن راي فيها إلا مَن ضَغَطَ على الزناد، علماً أن مكتب التحقيقات الفيدرالي كشف بعد عقود أنه كان يراقب كل تحركات كينغ.
الإرث
كان لحياة كينغ تأثير زلزالي على العلاقات العرقية في الولايات المتحدة. وبعد عقود من وفاته ما زال الزعيم الأمريكي الإفريقي الأكثر شهرة في عصره.
تم تكريم حياته وعمله بعُطلة وطنية في سائر الولايات، وتسمية مدارس ومبانٍ عامة باسمه، إلى جانب نصب تذكاري في العاصمة واشنطن.