فيلسوف التشاؤم يسألك: هل تذوقت نصف الكوب الفارغ من قبل؟

عربي بوست
تم النشر: 2020/06/04 الساعة 13:25 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2020/06/11 الساعة 08:41 بتوقيت غرينتش
فيلسوف التشاؤم يسألك: هل تذوقت نصف الكوب الفارغ من قبل؟

ناقش الكاتب الأمريكي إرفين د. يالوم في روايته "عندما بكى نيتشه"، إمكانية التسامي على الأزمات الذاتية وتحويلها إلى دوافع للنموّ، بدلاً من أن تكون عاملاً لتأجيج غرائز الانحطاط. فما كان يعانيه فيلسوف الريبة من المرض والعزوف عن الصداقات وغياب الأب وندرة المُتابعين لمحاضراته وتأخّر الاعتراف بأثره المعرفي، وإخفاقه في الحبّ، شحذ نبوغه أكثر، ومضى في استهداف الإرث الفلسفي وتفكيكه، لدرجة ثورته على من أنزلهم منزلة الأساتذة في شبابه.

كذلك انقلب الكاتب إرفين يالوم على الفيلسوف شوبنهاور، وهو الذي وصف لحظة اكتشافه كتاب الأخير "العالم كإرادة وقوة"، بالمنعطف المعرفي. لكن ما يقوله بحقّه لاحقاً يناقض هذا الموقف. إلى هنا قد لا يصعبُ إيجاد حلقة التواصل بين رواية يالوم عن "نيتشه" وما نشره بعنوان "علاج شوبنهاور". ومن نافلة القول التذكير بأنَّ ما يرمي إليه يالوم من مشروعه الروائي، هو توظيف المادة الفلسفية لتناول الظواهر الحياتية وفتح ممرّ لتداول الهواجس الوجودية، حيثُ يتمُ تطويع القالب الروائي لتمرير أفكار الفلاسفة. هذا فضلاً عن سرد محطاتٍ من سيرة هؤلاء، وبذلك يكونُ أمام القارئ مجال لتأمُّلِ مراحل التكوين ونمط الحياة والعوامل المؤثرة في تنشئة شخصية الفيلسوف وتمكّنه من اختراق الأسيجة الشائكة.

أسلوب الحياة

تتناوب فصول رواية "علاج شوبنهاور" بين سيرة مؤلف "الملاحق والمغفلات" وعرض رؤيته للحياة، وما يدور لدى المشاركين في جلسات المعالجة، إذ يتمُّ ترويس افتتاحيات أقسام الرواية بأقوال شوبنهاور، فضلاً عن تضمين عباراته المقتبسة من كتبه، في الكلام المُتبادل بين شخصيات الرواية، إذ يمثّلُ فيليب، الذي كان في حلقة مرضى جوليوس، فالأخير حاول معه لمدة ثلاث سنوات ليتعافى من الإدمان الجنسي، لكن لا تنفعُ المحاولات، وينغمسُ فيليب في الملذّات، مقتنصاً فرائسه واحدة تلو أخرى. ولم يكن يحظى بفترة الاستراحة إلا بعد ممارسة الحب، وهذا النهم لا شيء يخمدهُ سوى فلسفة شوبنهاور المتقشّفة.

شوبنهاور

يشير إلى أنَّ ألبير كامو يلمّحُ في كتابه "أسطورة سيزيف" إلى وجود التناقض بين تسويق شوبنهاور للانتحار وحظوته بمائدة بديعة، متسائلاً: هل علينا مواجهة مثل هذه المتناقضات لنستنتج أنه ليست هناك علاقة بين الرأي الذي يحمله المرء عن الحياة، والفعل الذي يرتكبه لمغادرتها؟ فعلاً كان شوبنهاور حريصاً على الحياة، فيهرب من الخدمة العسكرية، وما إن ينتشر الوباءُ في برلين حتى يغادر المدينة، كما يتركُ نابولي خوفاً من الإصابة بالجدري وتلاحقه في فيرونا فكرة تنشُّق السمّ، لكن الأهمّ في هذا الصدد ليس الالتفات إلى وجود التنافر بين الفكر والسلوك بقدر ما يجب إثارة سؤال حول إمكانية التعاطي مع الحياة بإيحاء فلسفة شوبنهاور؟

كتبت لشوبنهاور أمُّه ذات مرة: "أعرف جيداً كم أنّ إحساسك بسعادة الشباب قليل، وكم أنَّ مزاجك في التفكير السوداوي الكئيب كبير، والذي ورثته من والدك". وكان يستخفُّ بالناس، واصفاً إيّاهم بكائنات تسير على قدمين، وكلّما اختلط بالرجال داهمهُ الشعور بأنَّه أصبحَ أقلَّ إنسانيةً. والإنسان كائن مخدوع برأي شوبنهاور، لأنَّ بلوغه اللذة القصوى يكمنُ في غريزةٍ تضمنُ استمرارية النسل. إذن فإنَّ هذه الرغبة الغريزية لا تقاوَم ولا يحكمها العقل.

وبالنسبة لشوبنهاور، فإنَّ الزواج ليس إلّا دَيناً يسدّده المرءُ في الشيخوخة، فكان يكره كلّ أشكال التواصل وتأصّلت فيه روحية استعلائية، وما برحَ يردّد: "أنا لستُ في موطني الطبيعي ولست بين كائنات مساوية لي". وحسب ما يفصحُ عنه مضمون الرواية، فإنَّ شوبنهاور تأثّر بالفلسفة الرواقية، كما أنَّ الحِكم والأقوال المأثورة التي تنساب في سيرته تدعم ميوله إلى العزلة والعزوف عن الأواصر الاجتماعية.

فيديو شارح لفلسفة شوبنهاور

العدّ التنازلي

تستمدُّ حركة السرد مزيداً من التشويق مع التحوّلات التي يشهدها موقع الشخصيات في فضاء الرواية، إذ لا تلتزمُ عدسة الراوي بمتابعة شخصية واحدة، وبذلك تصبحُ البؤر السردية متعدّدةً.

ومن جانبه، يعتمدُ إرفين د.يالوم على هذه التقنية في بناء عمله الروائي، حيثُ يفتتحُ السردُ بمراقبة الراوي لشخصية المعالج النفسي جوليوس، ويستبطنُ مستواه المعرفي، لافتاً إلى الأسئلة التي تتراكم في ذهنه بشأن الموت وعلاقة جوليوس بالفلسفة الرواقية والأبيقورية، وما قاله روّاد المدرستين حول الموت. ومن ثمَّ يتضحُ الموقف أكثر، بأنَّ من يحتاجُ العزاء هو الطبيب النفسي الذي كان يوظّفُ ما في علبته من المقولات الفلسفية لتهدئة مرضاه. ولكن بعد اكتشاف إصابته بسرطان جلدي، يتأكّدُ جوليوس، الذي هيمن على أوساط الطبّ النفسي لمدة ثلاثين سنة وعالج عدداً من الأطباء المعروفين، أنَّ حياته تتّخذُ منحى مختلفاً، وأصبح على مرمى سنة واحدة من النهاية. والحال كهذا، أراد عبور مرحلة التوتر، وغالَب الأرقَ بالتجوّل في مكتبته وتأمّل كلمات نيتشه "أكمِل حياتك" "ولتمُت في الوقت المناسب". وينبشُ في ملف الأشخاص الذين عالجهم، إلى أن يقتنع بضرورة أن يمضي سنته في مزاولة عمله، وكان يشقّ عليه سدّ الفراغ الذي تركه رحيل زوجته دون الانهماك في مهمته.

أخيراً، يقع اختياره على فيليب ليتواصل معه من جديد، علماً بأنّه قد مرّ خمسة وعشرون عاماً على آخر لقاء قد جمعه به، وقد يكون الدافع وراء ذلك هو إعادة المحاولة مع مريض قد فشل في معالجة أزمته. وهذا ما يؤكّده فيليب بنفسه في محادثته مع جوليوس، مشيراً إلى وطأة التكلفة عليه. وما يشدّ الاهتمام في هذه الحلقة هو تحوُّل شخصية فيليب سلايت من المهووس بالجنس إلى معالج نفسي، إذ يسرد خلاصة تجربته في دراسة الفلسفة قبل أن يهتدي إلى شوبنهاور، ويلفتُ انتباه طبيبه السابق إلى مشروعه الفلسفة السريرية "ويبدي رغبته في أن يصبح جوليوس مشرفاً له، وما من الأخير إلّا أن يقترح عليه الانضمام إلى جلسات المعالجة الجماعية، وهذا يعني انفتاح السرد على شخصيات جديدة، وطبعاً ما يجمع بين هؤلاء هو العقَد والأزمات النفسية".

هذا إضافة إلى تتبُّع سيرة آرثر شوبنهاور وبيئته الأسرية، ويأتي كل ذلك للإبانة عن دور الفلسفة في معالجة الأوبئة التي تفترسُ الروح قبل الجسد. وما يفهمُ من جزئيات هذا العمل الروائي المطعّم بنزعات فلسفية، أنَّ شوبنهاور قد سبق غيره في ارتياد طبقات معتمة بالنفسية البشرية، وثمَّن عدد كبير من الأدباء والمفكرين دوره على هذا الصعيد. لكن ما قدّمه شوبنهاور ليس إلّا دعوة إلى رؤية النصف الفارغ من الكأس، وللقارئ حرية الاختيار بينها وبين ما قاله نيتشه "هل كانت تلك هي الحياة، حسناً مرة أخرى"، أو ربما يكون جريئاً ولايتبعُ أحداً.

أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

كه يلان محمد
كاتب عراقي مهتم بالثقافة والأدب والفلسفة
كاتب عراقي مهتم بالثقافة والأدب والفلسفة