لم يكن شاكا زولو أو "نابليون الأسود" زعيماً عادياً، فقد استطاع هذا القائد الاستثنائي توحيد قبائل جنوب إفريقيا وبناء إمبراطورية لم تشهد المنطقة مثلها من قبل.
لك أن تتخيل شاكا زولو على أنه رجل أسمر اللون طويل القامة مفتول العضلات، محارب شرس وقائد فذ ودبلوماسي متمرس، ولك أن تتخيله أيضاً على أنه وحش متعطش للدماء، قتل آلاف النساء الحوامل وأزواجهن ليعبر عن حزنه بعد وفاة والدته، وحبس والدة أحد أعدائه في منزل مع ضباع جائعة لتنهش لحمها ثم أحرق المنزل بمن فيه.
فقد جمع هذا الزعيم الإفريقي تناقضات كانت سبباً في تخليد اسمه إلى يومنا هذا في ذاكرة الشعوب الإفريقية والعالم، كرجل غامض لا تخلو شخصيته من الجاذبية على ما فيها من وحشية وتعطش للدماء.
وبالرغم من انقضاء قرابة قرنين على وفاته، لا يزال التاريخ يذكره كأعظم قائد خرج من إفريقيا، فلنتعرف عليه معاً:
من هو شاكا زولو أو "نابليون الأسود"؟
حكم شاكا مملكة الزولو الممتدة من بين نهري بونغول وزيمخولو في جنوب إفريقيا من عام 1816 إلى عام 1828 وكان كما وصفه المؤرخون أعظم الملوك الذين خرجوا من إفريقيا عبر التاريخ.
بالرغم من أعماله الوحشية، وميله للدموية في كثير من الأحيان، إلا أن شاكا كان محارباً شرساً وقائداً عسكرياً متمرساً، وعرف بميله للدبلوماسية والسياسة عند الحاجة.
لم تكن طفولة هذا الزعيم الإفريقي سهلة، فقد ولد بعلاقة غير شرعية بين امرأة تدعى "ناندي" وزعيم قبيلة الزولو المدعو "سينزانغاخونا كيجاما".
وبالتالي لم يكن شاكا ووالدته محل ترحيب في القبيلة، مع ذلك كبر شاكا ليصبح محارباً مغواراً لا يشق له غبار، واستطاع فرض احترامه على أبناء قبيلته وكسب ود أبيه كذلك.
زعيم عرش الزولو
عندما توفي "سينزانغاخونا كيجاما" والد شاكا، تولى أخوه غير الشقيق سينغوجانا العرش على اعتباره الوريث الشرعي، إلا أن حكمه لم يكن طويلاً.
فقد استطاع أخوه شاكا أن يشكل تحالفات قوية ومتينة في المنطقة بذكائه وقوته، وتلقى دعماً عسكرياً من الملك "دينجيسوايو" زعيم إمبراطورية "متثيثوا" الإفريقية المجاورة.
وهكذا نفذ شاكا انقلاباً غير دموي على أخيه، بحكم أن أبناء الزولو كانوا مناصرين لشاكا الذي أصبح زعيماً عليهم، مع بقاء ولائه لإمبراطورية "متثيثوا".
انتقام وحشي من قاتل الملك
ما لبث الملك "دينجيسوايو" صديق شاكا وداعمه أن قُتل على يد أحد أعدائه، المدعو "زويد" وهو زعيم قوي لقبيلة ندوانوي.
وهنا جن جنون زعيم الزولو الذي أقسم على الانتقام، وكانت الانطلاقة الحقيقية لأسطورة شاكا العسكرية، فقد استطاع توحيد قبائل جنوب إفريقيا وضم إلى سلطته إمبراطورية متثيثوا، وأسس عاصمته بولاية في منطقة قوابي.
ثم حشد قواته لمواجهة "زويد"، ليشعل حرباً أهلية في المنطقة امتدت ما بين عامي 1819-1820.
التفاصيل الدقيقة لهذه الحرب غير معروفة، لكن من المعلوم أن "زويد" قد نجا بطريقة ما فيما وقعت والدته في أسر شاكا الذي انتقم منها بطريقة وحشية.
إذ حبسها في منزل مع الضباع الجائعة لتنهش لحمها، ثم أحرق المنزل بمن فيه بعد ذلك.
لم يشف هذا الانتقام غليل شاكا، وبقي يطارد قاتل الملك حتى تواجها في معركة حاسمة في العام 1825، وانتصر شاكا نصراً حاسماً وأخيراً بالرغم من تكبد قواته العديد من الخسائر.
شاكا موحد قبائل جنوب إفريقيا
لم يطلق لقب "نابليون الأسود" على شاكا زولو هباء، فقد تميز الرجل بعقلية عسكرية فذة مكنته من فعل ما لم يفعله زعيم إفريقي قبله.
إذ لم تعد الزولو في عصر شاكا مجرد عشيرة قبلية تابعة لإحدى الإمبراطوريات بل أصبحت الزولو إمبراطورية بحد ذاتها وقد أجبر صعودها تحت حكم شاكا المشيخات والعشائر الأخرى على الفرار عبر منطقة واسعة من جنوب إفريقيا.
فشملت العشائر الفارة من منطقة حرب الزولو سوشانجان وزوانجاندابا ونديبيلي وهلوبي ونغوان ومفنغو.
وبسبب خلفيته كمحارب، علم شاكا أن الطريقة الأكثر فعالية لتصبح قوياً بسرعة كانت من خلال غزو القبائل الأخرى والسيطرة عليها، فاستندت استراتيجيته في المقام الأول على القوة العسكرية، وتحطيم خصومه ثم دمج بقاياهم المتناثرة في جيشه.
وقد أثرت رؤيته هذه بشكل كبير على أفراد قبيلته التي باتت منبعاً لمحاربين شرسين متشبهين بقائدهم شاكا.
وإلى جانب القوة، استخدم شاكا الدبلوماسية أيضاً، واستمال بعض القبائل إلى صفه بطرق ودية دون قتال.
وهكذا استطاع شاكا أن يشكل مملكة قوية ممتدة من بين نهري بونغول وزيمخولو في جنوب إفريقيا، وحكم قرابة 250 ألف شخص وحشد في حروبه ما يقارب 50 ألف محارب، وهو ما لم يفعله أحد قبله.
شاكا مبتكر نهج جديد للقتال في إفريقيا
قبل شاكا كان الزعماء الإفريقيون يميلون إلى الاحتفاظ بنفوذ محدود مقابل أقل خسائر ممكنة في الأرواح والعتاد.
لكن زعيم الزولو ابتكر نهجاً حربياً جديداً في المنطقة، قائم على إخضاع القبائل الأخرى بالقوة مهما كلف الثمن، فقد شهدت سنوات حكمه الـ12 حروباً كثيرة راح ضحيتها آلاف القتلى.
ويروي المؤرخون أن هذا الزعيم الإفريقي قد ابتكر تكتيكات عسكرية لم يتبعها أحد سواه في المنطقة، وتم تشبيه استراتيجياته بالاستراتيجيات العسكرية التي اتبعتها الإمبراطورية الرومانية في أوج توسعها.
كما ينسب إليه ابتكار أساليب قتالية جديدة، وابتكار عدد من الأسلحة وأنواع جديدة من الرماح لم تكن معروفة قبله.
وفاة والدته ناندي
بدأت القبائل الإفريقية تسخط على شاكا بسبب بطشه وتوسعاته العسكرية الدموية، لكن الجنون الذي شهده سكان المنطقة عقب وفاة والدته ناندي كان نقطة تحول مفصلية في شعبية زعيم الزولو.
فقد أفقده موت والدته الحبيبة صوابه بشكل كامل، وبدأ يمارس سلوكيات قمعية ووحشية للتعبير عن حزنه.
ففي العام 1827، لحق الدمار بمناطق واسعة من جنوب إفريقيا لأن الزعيم شاكا حزين على فراق والدته المتوفاة، فقد أمر بعدم زراعة أي محاصيل في هذه السنة، ومنع كذلك استخدام الحليب (أساس نظام الزولو الغذائي في ذلك الوقت).
كما أمر بقتل جميع النساء الحوامل مع أزواجهن، وأعدم قرابة 7000 شخص كي يشعر أحباؤهم بمرارة الفقد التي يشعر بها هو بوفاة والدته.
ولم تقتصر أعمال القتل على البشر فقط، بل أمر أيضاً بقتل الأبقار كي تشعر العجول كذلك بمأساته ومعاناته، في ذلك الوقت شعر الجميع أن الزعيم قد جن وفقد عقله، وربما آن الأوان للتخلص منه.
موت شاكا
قام دينجاني ومهلانجانا، الأخوان غير الشقيقين لشاكا، بمحاولتين على الأقل لاغتيال شاكا قبل أن ينجحا أخيراً، ربما بدعم من بعض القبائل الساخطة على الزعيم.
فقد صنع شاكا أعداء كثراً له خلال فترة حكمه، خصوصاً بعد وفاة والدته.
كما تقول بعض الروايات أن الأوربيين كذلك كانوا يتمنون موته بشدة، إذ يعتبر نظامه القوي تهديداً لمطامعهم الاستعمارية في المنطقة.
ومع كثرة أعداء زعيم الزولو، وفقدانه لصوابه بسبب حزنه على والدته، بات مقتله مسألة وقت فقط، إذ تمكن ثلاثة قتلة مأجورين من الإجهاز عليه في عام 1828 م.
وبعدها تم إلقاء جثة شاكا في حفرة مليئة بالحجارة والطين، وبالرغم من أن مكان قبره غير معروف على وجه التحديد إلا أنه قد بني له نصب تذكاري في أحد المواقع المزعومة لاحقاً.
وبالرغم من الدماء التي سفكت في عهد زعيم الزولو، إلا أن إفريقيا لا تزال تذكر شاكا على أنه محارب شرس ومغوار، ومازال الرجل يملك إلى اليوم جاذبية خاصة في عيون الكثيرين من أبناء جنوب إفريقيا.