على مدار 5 سنوات، اجتاح وباء الطاعون قارة أوروبا بين عامي 1347 و1352 حاصداً أرواح نحو ثلث سكان القارة، وعلى الرغم من اعتباره دائماً وباءً انتشر في أوروبا، فإنه في الوقت ذاته انتشر في آسيا والعالم العربي، ما يوحي بأنه كان جزءاً من وباء عالمي كان واسع النطاق وليس في أوروبا فقط.
ولسوء الحظ، لم يوثّق مسار الوباء في آسيا تماماً كما هو الحال بالنسبة لأوروبا، ومع ذلك، يظهر الموت الأسود في سجلات غالبية دول آسيا كونه نشر الموت والدمار.
لماذا سُمي الموت الأسود؟
خلال العصور الوسطى لم يكن يُستخدم التعريف العلمي الذي نستخدمه حالياً وهو الطاعون، فكان رواة دنماركيون وسويديون أول مَن استخدم مصطلح الموت الأسود أو الموت العظيم، وكانت هذه التسمية مجازية للتأكيد على الرعب والدمار الذي تسبب به هذا الوباء، وفق ما ذكره موقع Thought co.
أصل الموت الأسود
يعتقد العلماء أن بداية وباء الطاعون كانت من شمال غرب الصين، بينما يعتقد آخرون أنه من جنوب غرب الصين أو سهول آسيا الوسطى، تقريباً سنة 1331.
وتسبب المرض بقتل أكثر من 90% من سكان مقاطعة خبي، وبلغت الوفيات أكثر من 5 ملايين شخص.
ويقول العلماء إنه حتى عام 1200 كان عدد سكان الصين أكثر من 120 مليون نسمة، لكن تعداد عام 1393 كان فقط 65 مليون شخص.
ويرجع سبب موت هذا العدد الكبير إلى المجاعات والاضطرابات التي سببها انتقال الحكم من يوان إلى مينغ، ولكن السبب الأساسي كان هو الطاعون.
كيف انتقل الوباء من الصين إلى بقية دول آسيا؟
جميعنا نعرف أنّ الصين موجودة على الطرف الشرقي من طريق الحرير التجاري، وهذا الطريق هو السبب الرئيسي وراء انتقال المرض من الصين إلى بقية آسيا.
فقد ركب الموت الأسود الطرق التجارية غرباً وتوقف عند قوافل آسيا الوسطى ومراكز التجارة في الشرق الأوسط، ثم أصاب الناس في جميع أنحاء آسيا.
كما أكد أحد الباحثين أن نحو 300 قبيلة متنقلة على طريق الحرير توفوا جميعاً دون سبب واضح خلال تنقلهم الموسمي.
بينما ذكر الكاتب ابن الوردي -وهو كاتب سوري توفي في حلب سنة 1349 بسبب الطاعون- أن الموت الأسود جاء من أرض الظلام -كما أطلق عليها- أي من شرق آسيا، وأنها من هناك انتشرت إلى الهند وبحر قزوين وأرض الأوزبك (أوزباكستان) ومن ثم إلى بلاد فارس (إيران) والدول التي على البحر الأبيض المتوسط.
الموت الأسود يضرب بلاد فارس وقيرغيزستان
بعد أن انتشر الوباء في الصين ضرب بعد عدة سنوات المناطق الجنوبية الغربية وتحديداً بلاد فارس والدول التركمانية مثل قيرغيزستان وتركمانستان.
وهذا الانتقال أكد فرضية أن طريق الحرير هو طريق انتقال العدوى للدول الأخرى.
تسبب الوباء في مقتل ما يقرب من 30% من سكان بلاد فارس إضافة إلى أن سرعة شفاء الناس كانت بطيئة جداً بسبب الاضطرابات السياسية الناجمة عن سقوط حكم المغول وغزوات تيمورلنك اللاحقة على البلاد.
في حين كشفت الحفريات الأثرية على شواطئ إيسيك كول في جمهورية قرغيزستان أن الطاعون تسبب في سنة 1389 بتدمير المجمع التجاري المسيحي هناك.
وكان مجمع إيسيك كول مستودعاً رئيسياً لطريق الحرير، وكان يُشار إليه أحياناً باسم نقطة الوصل للموت الأسود ما بين شرق آسيا وغربها.
وعلى الرغم من صعوبة الحصول على أرقام صحيحة لأعداد القتلى في تلك البلاد فإن السجلات تشير إلى أن مدن مثل تالاس في قيرغيزستان وسمرقند في أوزباكستان ومدن أخرى بينهما قد عانت جميعاً من الموت الأسود الذي تسبب بمقتل نسبة تتراوح من 40% إلى 70% من السكان.
وصول الموت الأسود إلى الشرق الأوسط
صوَّر المؤرخون شدة فتك الوباء الذي ضرب بلاد الشام خاصة مدينة حلب، التي لم يعد سكانها يجدون مكاناً لغسل الموتى بسبب كثرتهم.
وذكر ابن بطوطة في رحلته أنّ الموت الأسود وصل بلاد الشام تقريباً سنة 1349 وعندما وصل كانت أعداد القتلى في القاهرة 24 ألفاً في اليوم وفي حلب ودمشق وحدهما يومياً نحو 4000 شخص، وأن الدمشقيين كانوا لا يغادرون الجوامع وباتوا يصلون ويصومون ويقرؤون القرآن طيلة الأوقات.
وقد أسهب المؤرخون في وصف ما حدث حينها، فقال تقي الدين المقريزي إن أول ظهور للطاعون في بلاد الشام كان في حلب ومنها انتقل إلى بقية بلاد الشام.
في حين قال ابن خلدون: "هذا إلى ما نزل بالعمران شرقاً وغرباً في منتصف هذه المئة الثامنة من الطاعون الجارف الذي تحيف الأمم، وذهب بأهل الجيل، وطوى كثيراً من محاسن العمران ومحاها، وأوهن من سلطانه، وتداعت إلى التلاشي والاضمحلال أموالها".
بينما قال ابن الوردي وهو يصف هذا الوباء: "ثم غزا غزة، وهز عسقلان هزة، وعك إلى عكا، واستشهد بالقدس وزكى، فلحق من النهار بين الأقصى بقلب كالصخرة، ولولا فتح باب الرحمة لقامت القيامة في مرة، ثم طوى المراحل، ونوى أن يلحق الساحل، فصاد صيدا، وبغت بيروت كيداً".
في حين وصف شمس الدين السخاوي المرض بالخطاف، مؤكداً أن سكان دمشق هم مَن سمّوه بهذا الاسم لأنه يخطف الرجل والمرأة والطفل في يوم أو يومين أو ثلاثة.