"فيروس كورونا هو مؤامرة صينية، بدأ الفيروس في أحد مختبرات الصين كسلاح بيولوجي، ثم حدث خطأ ما وخرج عن السيطرة". بدأت هذه السردية في الظهور علي الإنترنت العميق (Dark Web) ومنتديات نظريات المؤامرة كمجموعة نظرية المؤامرة على موقع Reddit، ثم أخذت تتوسع حتى وصلت لصفحات أقربائك ومعارفك على فيسبوك.
الجديد هذه المرة هو أنها أصبحت السردية التي تبناها زعيم أقوى دولة في العالم، رئيس أمريكا دونالد ترامب! فكيف حدث هذا؟ وما الذي يجعل الرئيس الأمريكي يتحدث عن نظرية لا يوجد أي تأكيد علمي عليها؟ بل إن العلم حطمها في أول اختبار، عندما نشرت مجلة Nature Science فى 17 مارس/آذار تقريراً مفصلاً يؤكد "استحالة أن يكون الفيروس تم تطويره في أحد المختبرات أو تم التلاعب في شفرته الجينية بتدخل بشري بأي شكل من الأشكال".
ترامب ونظريات المؤامرة.. ليس مؤيداً ولكنه منتفع
ولترامب تاريخ طويل في تبني نظريات المؤامرة، ولعل أشهرها عندما طالب عدة مرات الرئيس السابق باراك أوباما بإظهار شهادة ميلاده، ليثبت أنه أمريكي وُلد على الأراضي الأمريكية، أو عندما لمّح إلى أن التطعيمات ربما قد تكون مضرّة للأطفال ويجب خفض الجرعات المعطاة للأطفال. أو رفضه الدائم لنظرية الاحتباس الحراري.
ويشارك ترامب في هذه الآراء نائبه مايك بنس، الذي ادّعى ذات مرة أن التدخين لا يسبب الوفاة! ولكن لماذا يفعل دونالد ترامب هذا؟ وكيف يتبنى الرئيس الأمريكي وإدارته كل هذه النظريات التي تعادي العلم والمنطق؟
لنفهم ذلك علينا أن نعود بالتاريخ إلى الوراء لنلقي الضوء على حادثتين بارزتين: الأولى تأسيس قناة Fox الإخبارية، والثانية حملته الانتخابية للرئاسة.
تأسيس قناة فوكس الإخبارية
كانت قناة Fox الإخبارية أحد أحلام المستشار الإعلامي روجر آليس، وهو أحد المستشارين الإعلاميين البارزين الذين عملوا على مدار عقود مع الحزب الجمهوري الأمريكي. شغل آليس منصب المستشار الإعلامي للرئيس الأمريكي ريتشارد نيكسون، كما شغل المنصب ذاته لجورج بوش الأب ورونالد ريغان، وأثناء عمله مع نيكسون انتبه آليس إلى حقيقة مهمّة هي أن المواطن الأمريكي يفضل مشاهدة التلفاز على قراءة الجرائد أو سماع الراديو أو غيرهما من وسائل الإعلام.
"الناس كسالى، عندما يشاهدون التلفاز فإنهم يجلسون ليشاهدوا ويستمعوا، بينما يقوم التلفاز بالتفكير بالنيابة عنهم"، يقول روجر آليس في مذكرة مرفوعة إلى الرئيس الأمريكي نيكسون.
رفع روجر آليس مذكرة إلى الرئيس ريتشارد نيكسون بعنوان: "خطة لوضع الحزب الجمهوري على التلفاز." ذكر فيها أن الحزب الجمهوري يواجه مشكلة مع الصحافة والإعلام تتمثل في أن الكثير من دعايته السياسية لا تصل بالأساس إلى الجمهور، ويرجع آليس السبب في ذلك إلى أن "الصحفيين يعملون كحراس لبوابة الوعي الأمريكي"، ويقصد روجر هنا أن الصحفيين يتقيدون بالعديد من الأشياء كأخلاقيات المهنة والعلم والمنطق وغيرها مما يعمل كمصفاة تفصل كل دعاية الحزب عن المواطن الأمريكي.
ويرى روجر الحل في إطلاق قناة تلفزيونية تبدو بمظهر القناة الإخبارية، ولكنها في الحقيقة بوق دعائي للحزب الجمهوري، ينقل الدعاية السياسية كما هي بدون تنقيح. وتحقق هذا الحلم أخيراً عام 1996 بإطلاق قناة فوكس الأمريكية، التي ستتحكم في سياسات الحزب الجمهوري بعدها بعشرين سنة فقط، ولا تزال تحت قيادة روجر آليس حتى الآن.
ترامب رئيساً 2000
الأمر الثاني الذي نحتاج إلى النظر إليه هو حملة دونالد ترامب الانتخابية، وهنا لا نتحدث عن ترشحه للرئاسة في عام 2016، بل نتحدث عن محاولته الأقل شهرة في عام 2000، ترشح دونالد ترامب للرئاسة عن حزب الإصلاح الأمريكي، وهو أحد أحزاب أقصى اليمين الأمريكي الذي أسسه روس بيرو عام 1995، بعد حملة رئاسية لم يحصل فيها على أية أصوات في المجمع الانتخابي، غير أنه حصل على قرابة 20% من أصوات الأمريكيين، نسبة ليست بالهيّنة على الإطلاق ستغير مسار السياسة الأمريكية لاحقاً.
تقوم مبادئ حزب الإصلاح على رفض النظام السياسي الأمريكي بالكامل، حيث يصف الحزب النظام السياسي بالفساد، وفي سبيل ذلك يرفض جمهور الحزب المؤسسات الحكومية كلها، ويشمل ذلك المؤسسات العلمية ومؤسسات البحث العلمي. ويلعب الحزب في ذلك على نيل أصوات أقصى اليمين الأمريكي الذين لا يرَوْن أن الحزب الجمهوري يمينياً بما يكفي. وكما ذكرنا مسبقاً حظيت هذه الأفكار بإعجاب قرابة ربع المواطنين الأمريكيين، ولكنها لم ترتقِ أبداً لتكون ممثلة في المجالس النيابية على المستوى الفيدرالي أو في المجمع الانتخابي الرئاسي بسبب فشل المنظومة الديمقراطية الأمريكية في استيعابها هي ومؤيديها رغم ضخامة العدد.
بعد تلك المحاولة الفاشلة للترشح للرئاسة أدرك ترامب قوة جمهور هذا الحزب، ولكنه أدرك أيضاً أنه لا مفرّ من الترشح عبر أحد الحزبيْن الديمقراطي أو الجمهوري. وعندما أعلن ترشحه للرئاسة عام 2016 عن الحزب الجمهوري الأمريكي قابله أعضاء الحزب البارزون بالسخرية، حيث سخر من حملته جون ماكين وتيد كروز وغيرهما. لكن ترامب لم يعبأ بهما على الإطلاق فهو في الحقيقة لا يعتمد على جمهورهم الأكثر اعتدالاً، ولكن خاطبت حملته اليمين المتطرف المُعادي للمهاجرين منذ اللحظة الأولى. فأعلن في خطاب ترشحه عداءه لكل السياسيين الأمريكيين والنظام السياسي وكذلك معاداته لسياسات الهجرة المنفتحة، وهي نفس الأفكار التي يقوم عليها حزب الإصلاح.
كانت حملة دونالد ترامب قائمةً على تحليل البيانات عبر السوشيال ميديا كما عرفنا فيما بعد من فضيحة كامبريدج أناليتكا، وتقوم الحملة بالعمل على النحو التالي: تقوم الحملة بتحليل البيانات للتنبؤ بالآراء ووجهات النظر التي يلتفّ حولها جمهور دونالد ترامب، يتم انتقاء الآراء ونظريات المؤامرة وغيرها من منتديات اليمين المتطرف، ثم يتم اختبار الرأي مع مجموعة صغيرة من الجمهور الأوسع من مؤيدي دونالد ترامب، وإذا نجح الرأي في كسب نسبة أكبر من التأييد، يقوم دونالد ترامب بتبنيه عبر تويتر وفي مؤتمراته الصحفية، لا يهم مدى جنون هذا الرأي أو مدى مصداقيته أو حتى منطقيته، المهم هنا هل سيكسب التأييد أم لا.
ترامب وفوكس نيوز.. العلاقة السامة التي تحكم العالم
نعود إلى فوكس نيوز، التي تعمل كبوق دعائي للحزب الجمهوري، تحت قيادة روجر آليس، لكننا سنتحدث عن مالك القناة روبرت مردوخ، وهو ملياردير أمريكي من أصول مهاجرة، وهو أحد الداعمين لسياسات هجرة أكثر اعتدالاً، حيث يرى مردوخ أهمية المهاجرين لبناء اقتصاد قوي لأي دولة.
طلب مردوخ، مالك القناة، من روجر آليس ألا تقوم القناة بدعم دونالد ترامب في بداية حملته، وقد امتثل آليس لهذا الأمر، فقامت ممثلة قناة فوكس في المناظرة الخاصة بالمرشحين الجمهوريين بتوجيه أسئلة صعبة لدونالد ترامب، ما بدا هجوماً متبادلاً بين دونالد ترامب والقناة استمر أسابيع. انسحب ترامب خلالها من المناظرة الخاصة بالقناة ما أدى لإغلاقها.
ولكن ما لا لم يعرفه مردوخ وقتها كان استراتيجية ترامب لتحليل البيانات التي غازلت جمهور اليمين الأمريكي بدقة متناهية، فلاحظت القناة انهياراً في عدد المشاهدين في كل مرة تهاجم فيها ترامب، كما تلقت القناة عدداً ضخماً من الاتصالات الغاضبة من المشاهدين في كل مرة هاجمت فيها دونالد ترامب.
كان كل من مردوخ وآليس أمام اختيارات صعبة، فمردوخ رجل الأعمال كان عليه الاختيار بين أرباحه من القناة ومبادئه، وكان على آليس الاختيار بين حلم حياته بوجود بوق دعائي للحزب الجمهوري وبين تحلي القناة بالحد الأدنى من المصداقية والمنطق أمام الرأي العام. وحسم مردوخ الأمر بتغريدة له على تويتر بعد فوز دونالد ترامب بانتخابات الثلاثاء الكبير قال فيها: "سنكون مجانين إذا لم نتوحد خلف دونالد ترامب". وكانت هذه التغريدة إشارة البدء لعلاقة حميمية سامة بين القناة وترامب تستمر حتى يومنا هذا.
"فوكس والأصدقاء".. كيف يتحكم برنامج ترفيهي في عقل ترامب؟
لا يغيب عن أحد إعجاب الرئيس الأمريكي ببرنامج "فوكس والأصدقاء" البرنامج الصباحي الترفيهي على قناة فوكس، فهو يكتب على تويتر بانتظام مديحاً في البرنامج، ويقوم بعمل مداخلات تليفونية مع البرنامج بشكل منتظم، كان آخرها منذ أيام متحدثاً عن فيروس كورونا.
يبث البرنامج على قناة فوكس الإخبارية 7 أيام في الأسبوع لمدة 3 ساعات صباح كل يوم، ويقوم البرنامج الترفيهي بعرض العديد من الأخبار الغريبة والمتناسبة مع مزاج المشاهد اليميني الداعم لترامب، بغض النظر عن مدى مصداقية تلك الأخبار.
والحقيقة أن ترامب يقوم باستخدام برنامج "فوكس والأصدقاء" بنفس استخدام حملته لنظريات المؤامرة على الإنترنت، يقوم بانتقاء من بين تلك الأخبار ما يعتقد أنه يتناسب مع جمهوره وزيادة شعبيته، ثم يقوم بإعادة ترويجه عبر حسابه على تويتر.
في بحث نشرته مجموعة "media matters" الأمريكية قامت فيه بتحليل آلاف من ساعات البث من برنامج "فوكس والأصدقاء" وآلاف من تغريدات الرئيس الأمريكي. ووجدت تزامناً مذهلاً بين الأخبار التي يبثها البرنامج وبين أفكار الرئيس الأمريكي، حتى عندما يكون ما عرضه البرنامج يتعارض تماماً مع سياسات ترامب نفسها، فبعدما بث البرنامج فقرةً يعارض فيها قانون مراقبة الاستخبارات الأجنبية والمعروف اختصاراً بـ FISA. غرّد الرئيس الأمريكي معارضاً القانون أيضاً، على الرغم من أن إدارة ترامب وافقت على القانون، وتراجع بعدها الرئيس ووقع على القانون في نهاية الأمر.
قام موقع Vox الإخباري بتحليل ما بثّه البرنامج على مدار 17 شهراً منذ 2016 حتى 2017، ليكشف عن وعي البرنامج تماماً بتأثيره على ترامب، حيث تغيّرت لغة البرنامج لتخاطب الرئيس شخصياً بشكل كبير بدءاً من نوفمبر/تشرين الثاني 2016، يتحدث مقدمو البرنامج مباشرة إلى الرئيس ويقدمون له النصائح حول السياسات المختلفة.
إمبراطورية إعلام اليمين ليست مجرد قناة فوكس
الحقيقة أن إمبراطورية إعلام اليمين الأمريكي ليست قناة فوكس، وإنما قناة فوكس تعمل كمصفاة للآراء ونظريات المؤامرة الأكثر شعبية فقط، تتكون الإمبراطورية من عدد من المواقع الإخبارية المشهورة بالترويج لنظريات المؤامرة مثل: بريتبراد، وبرامج الراديو مثل Infowars وrush limbaugh show وحتى الشبكات التلفزيونية مثل OAN.
تخاطب تلك الإمبراطورية الإعلامية جمهور أقصى اليمين الأمريكي في غرفة صدى مغلقة منذ سنوات، تردد تلك الإمبراطورية في الأغلب نظريات المؤامرة من على الإنترنت العميق ومواقع ريديت، لكنها ظلّت عديمة أو محدودة التأثير في الإعلام والسياسة الأمريكية حتى انتخاب دونالد ترامب، ولكن ترامب -الذي أبدى إعجابه عدة مرات بكل واحدة من المصادر السابق ذكرها- قام بنقل تلك الإمبراطورية من الهامش إلى المتن، تعمل تلك المواقع على صياغة نظريات المؤامرة الأكثر شعبية على ريديت في صيغة إخبارية، تقوم قناة فوكس الإخبارية بانتقاء أفضلها وأكثرها تأثيراً على المشاهد الأمريكي، يشاهد الرئيس الأمريكي قناة فوكس ليتبنى خطابها الإعلامي، يقوم الإعلام الأمريكي ذو المصداقية بمناقشة تلك النظريات التي لا دليل عليها لأنها أصبحت وجهة نظر الرئيس الأمريكي، ثم تتحول نظرية المؤامرة التي تكوّنت في وحي خيال أحد زوار موقع ريديت إلى الأخبار التي تتم مناقشتها على أساس أنها حقائق قد تكون صحيحة، وبالطبع نتأثر في الشرق الأوسط بتلك الأخبار لنقوم بدورنا بمناقشتها على أنها احتمالات قد تكون صادقة.
فيروس كورونا صناعة صينية.. مثال على دورة حياة نظرية المؤامرة
بدأت نظرية المؤامرة كغيرها على الإنترنت على أنها مؤامرة صينية، في الحادي عشر من فبراير/شباط الماضي ادّعى أحد زوار موقع ريديت أنه أحد القيادات العليا في الجيش الصيني وأن كورونا كان تجربة فاشلة، حظي الموضوع بتفاعل كبير على منتدى "لا نوم" الخاص بنظريات المؤامرة على ريديت، في الواحد والثلاثين من شهر مارس/آذار قام موقع infowars بإعادة صياغة النظرية بعد ربطها بتحقيق عن الأسلحة البيولوجية في الصين عام 2015. وفي السادس عشر من أبريل/نيسان قامت فوكس نيوز بنشر تقرير حول النظرية أرجعته إلى مصادر مجهولة. ليقوم أخيراً دونالد ترامب بالمطالبة بفتح تحقيق حول الأمر، ما جعل الموضوع مثار حديث الإعلام الأمريكي بأكمله، وتبعه الإعلام العربي بالطبع.
وكما ستلاحظ، فإن النظرية تتم إعادة صياغتها في كل مرحلة لتصبح أقل حدّة في ادعائها وأسهل في تصديقها، فعندما وصلت النظرية إلى الرئيس الأمريكي أصبحت مجرد مطالبات بفتح تحقيق، لكنها تتجاوب مع المواطن اليميني الأمريكي المتابع لتلك النظريات.
لماذا ندفع في العالم العربي ثمن فشل الديمقراطية الأمريكية؟
بدأت المشكلة بالأساس من عدم استطاعة الديمقراطية الأمريكية احتواء أصوات أقصى اليمين، هؤلاء الـ20% الذين صوّتوا لصالح مؤسس حزب الإصلاح الأمريكي هم من يشكلون الآن سياسات أقوى دولة في العالم، ونحن في العالم العربي نقف كمتفرجين متأثرين بتلك المشكلة.
هل سمعت في دولتك عن نقص دواء الهيدروكلوروكين الذي يظن البعض أنه علاج فعال لكورونا، ما تسبب بنقص في الدواء لمن يحتاج إليه فعلاً من مرضى الذئبة الحمامية والروماتيد؟ الأمر كان ولا يزال متأثراً بتلك الدورة، فقد قام برنامج الراديو rush limbaugh show بالترويج للدواء على أنه علاج فعال ونهائي للفيروس أثناء فقرة عارض فيها توقف الاقتصاد وسياسات التباعد الاجتماعي، ثم قامت قناة فوكس الإخبارية بصياغة عدة فقرات إخبارية عن العقار الذي لم يثبت علمياً بعد تأثيره على فيروس كورونا، استضافت خلال إحداها شخصاً ادّعى كذباً أنه مستشار علمي لجامعة ستانفورد، ليكتب بعدها دونالد ترامب تغريدة يؤكد فيها فاعلية العقار، ويتناول الإعلام الأمريكي والعربي هذه التغريدة على أنها رأي له أهمية، وينتهي الأمر بجارك مريض الروماتيد الذي لا يستطيع إيجاد علاج لهذا المرض. ما يجعلنا نتساءل: لماذا ندفع جميعاً ثمن فشل الديمقراطية الأمريكية؟