لـ "ست الملك" من اسمها نصيب، فقد كانت هذه الأميرة الفاطمية الحاكمة الفعلية للدولة بعد أن أمرت بقتل أخيها الحاكم بأمر الله، وفقاً للعديد من المؤرخين.
يميل بعض المؤرخين إلى تبرئتها من هذه التهمة، لكن يتفق الجميع على أنها اشتهرت بسداد الرأي وحسن السياسة، ففي فترة حكمها أصلحت ما أفسده أخوها وألغت القوانين التعسفية والمجنونة التي حكم بها العباد.
كما اشتهرت ست الملك بأنها كانت وراء القضاء على الطائفة الدرزية في مصر التي كانت تنادي بتأليه أخيها الحاكم بأمر الله.
من هي ست الملك؟
ولدت ست الملك في قصر المنصورية في شمال إفريقيا (تونس حالياً) في العام 970، وكان والدها العزيز بالله الذي تولى حكم الفاطميين منذ 975 وحتى 996.
أما والدتها فقد كانت محظية لا يعرف اسمها على وجه التحديد، لكن تشير إليها بعض المصادر بـ "السيدة العزيزية" وهي حسناء من أصول يونانية بيزنطية، أوقعت العزيز في غرامها، ويروى أنها كانت مسيحية رفضت اعتناق الإسلام، ويرجح العديد من المؤرخين أنها كانت السبب وراء تسامح العزيز مع المسيحيين واليهود وتسليمهم مناصب هامة في الدولة، ولعل أبرزهم عيسى بن نسطور الذي كان واحداً من الوزراء ورجال الدولة المهمين في العصر الفاطمي.
هناك خلاف بين المؤرخين حول ما إذا كانت السيدة العزيزية هي والدة "الحاكم بأمر الله" الشقيق الأصغر لست الملك والذي حكم الدولة الفاطمية ما بين عامي (996-1021) لكن يرجح أغلبهم أن ست الملك والحاكم هما أشقاء من والدتين مختلفتين.
وقد ورثت ست الملك العديد من الصفات من والدتها، فقد عرفت بذكائها وجمالها وحنكتها.
قصر خاص ووحدة عسكرية خاصة
قبل عام من ولادة ست الملك، غزت الجيوش الفاطمية مصر، وباتت القاهرة عاصمة الخلافة الجديدة.
وفي عام 973، انتقلت عائلة العزيز إلى مصر، وهكذا أمضت ست الملك طفولتها في "قصر البحر" على شواطئ النيل، وبعد ذلك بنى لها والدها القصر الغربي في القاهرة ليكون ملكاً لها وحدها.
كانت ست الملك محبوبة والدها المفضلة، فقد أمطرها العزيز بالهدايا والأموال، حتى أنه وضع وحدة عسكرية خاصة تحت تصرفها.
وعندما بلغت ست الملك سن الرشد، بدأت بالمشاركة في أمور الحكم والسياسة في القصر الفاطمي، واستخدمت ثروتها لتمويل العديد من الأوقاف الخيرية.
وقد كانت كلمتها مسموعة لدى والدها، حتى أن شفاعتها أعادت الوزير عيسى بن نسطور إلى منصبه بعد أن تم فصله.
برجوان المخصي يضع ست الملك قيد الإقامة الجبرية
في العام 996 توفي العزيز فجأة أثناء إعداده لحملة عسكرية ضد البيزنطيين.
آنذاك كان ولده الوحيد ووريث عرشه المنصور (الحاكم بأمر الله) يبلغ من العمر 11 عاماً فقط، لذا انحازت ست الملك إلى جانب مرشح آخر للخلافة.
قبل وفاة المعز بالله، كان يفترض أن يخلفه ابنه الأكبر عبدالله (شقيق العزيز بالله) لكن عبدالله توفي قبل والده، مما أدى إلى استلام العزيز للحكم.
وبعد وفاة العزيز، ومع وجود خليفة صغير السن، رشحت ست الملك ابن عمها عبدالله ليكون الخليفة الجديد، وقيل إن الاثنين كانا مغرمين ببعضهما وأنها كانت تنوي الزواج منه.
توجهت الأميرة إلى القاهرة مع حرسها وابن عمها للسيطرة على القصر، إلا أن برجوان المخصي سبقها بأخذ البيعة للخليفة الصبي، وتمكن من هزيمة قوات ست الملك ووضع الأميرة تحت الإقامة الجبرية.
وبالرغم من ذلك، كانت العلاقات ودية بين الأخوين في بدايات حكم الحاكم بأمر الله خاصة بعد أن أصدر الحاكم أمراً بقتل برجوان الذي أشاع الفساد في الدولة واستأثر بالحكم لنفسه وكأنه الخليفة الفعلي.
بعد ذلك بدأ الحاكم بإدارة شؤون البلاد بنفسه ليكون بذلك سادس الخلفاء الفاطميين والإمام الإسماعيلي السادس عشر، وقد افتتح عهده بالزهد وإعتاق الرقاب والتصدق.
ولفترة من الزمن، بقيت العلاقات طيبة بين ست الملك وشقيقها الحاكم حتى أنه تزوج إحدى جارياتها، كما أنها تدخلت لإحباط مؤامرة كان يحيكها بعض الوزراء ضد أخيها، لكن الحال لم يبق هكذا على الدوام.
الحاكم يخرج عن السيطرة
سرعان ما بدأ الحاكم بأمر الله يصدر أحكاماً تعسفية بل ومجنونة في بعض الأحيان، وعانى الشعب في عهده من القمع والترهيب.
فقد بدأ الحاكم باضطهاد شعبه، والتنكيل بالمسيحيين واليهود حتى أن بعض الكنائس دمرت في عهده، وطالت قائمة المحظورات في ظل خلافة الحاكم لتشمل أشياء غريبة كتناول الملوخية والجرجير، أو ذبح الأبقار في غير أيام الأضاحي.
ثم وصل به الأمر حد تقبله لفكرة تأليهه من قبل جماعة الإسماعيليين الذين أوجدوا فيما بعد الطائفة الدرزية.
عارضت ست الملك بشدة سياسات شقيقها المجحفة، وانحرافه عن طريق الصواب، وبدأت العداوة تظهر بينهما إلى أن اختفى الحاكم في العام 1021 خلال إحدى جولاته الليلية في المدينة وبعد يومين من البحث وجد مقتولاً في أحد الأزقة.
يعتقد العديد من المؤرخين أن لست الملك يداً في مقتل الخليفة، لا سيما أنها كانت تخشى أن تقتل على يده بعد أن تعاظمت خلافاتهما فيما يعتقد آخرون أنها بريئة من ذلك.
ست الملك الحاكمة الفعلية للدولة الفاطمية
بعد مقتل الحاكم بأمر الله، عززت ست الملك مكانتها في القصر عبر توزيع الأموال على كبار الشخصيات والقادة العسكريين في الدولة.
وأعلنت الظاهر لإعزاز دين الله ابن شقيقها المقتول الحاكم بأمر الله خليفة للدولة الفاطمية، وقد كان الظاهر صبياً صغيراً آنذاك، وكوصية على العرش كانت ست الملك الحاكم الفعلي للبلاد.
وقد بدأت عهدها بإعدام المسؤولين عن مقتل شقيقها، واعتبر بعض المؤرخين هذه الخطوة دليلاً على براءتها فيما اعتبرها آخرون محاولة لتبرئة نفسها من الجريمة.
بعد ذلك بدأت ست الملك بإلغاء كل القوانين التعسفية الغريبة التي أصدرها شقيقها الحاكم، فسمح للنساء مغادرة منازلهن مرة أخرى بعد أن كن ممنوعات من ذلك في عهد الحاكم، كما شرعت الاستماع إلى الموسيقى وألغت محظورات الطعام، وسمحت للفارين من بطش الحاكم بالعودة إلى البلاد كما سمحت لغير المسلمين الذين أجبروا على اعتناق الإسلام في عهد أخيها بالعودة إلى دينهم.
وفي المقابل اضطهدت الطائفة الدرزية التي آمنت بألوهية الحاكم بأمر الله، وأزالتها تماماً من مصر، وحاصرتها في لبنان.
بعض المؤرخين يروون أن ست الملك قد ماتت في ظروف غامضة بعد أن فقدت سلطتها ونفوذها، لكن يرجح أغلب المؤرخين أنها بقيت مسيطرة على شؤون الدولة حتى وفاتها في العام 1023 عن عمر يناهز الـ52 عاماً.