إذا كانت غرفتك أقرب أصدقائك.. فرواية “الجدار” تتحدث عنك

عدد القراءات
4,778
عربي بوست
تم النشر: 2020/04/10 الساعة 11:41 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2020/04/10 الساعة 11:41 بتوقيت غرينتش
إذا كانت غرفتك أقرب أصدقائك.. فرواية "الجدار" تتحدث عنك

إذا كنت ممن يحبون غرفهم التي يشعرون فيها بالأمان، بعيداً عن العالم، خارج حدود تلك الغرفة. فبالتأكيد لديك رفاق في الغرفة، لعل أبرزهم الجدار المُقابل لسريرك، الذي ترمقه كل صباح ومساء، لعله أكثر من يعرفك، وأكثر من شاهد لحظات خوفك وضعفك وسقوطك. ولعله أيضاً أبرز من يراك ويشهد لحظات فزعك وخوفك من الخروج من غرفتك.

إذا كنت من أولئك فأنصحك بقراءة رواية "الجدار" للكاتبة المصرية "نورا ناجي" لأن هذا العمل يحكي عن أمثالي وأمثالك.

الرواية عن حياة، وحياة هنا لا تعني التي نعيشها، بل تلك التي عاشت بين "سيئول" مدينة كوريا الجنوبية و "القاهرة" المصرية و "دبي" الإماراتية. والتي صنعت من جدار غرفتها في غربتها شاهداً علی قبح العالم، كي تتذكر صباحاً ومساءً أن العالم مكان مرعب، لا مكان فيه للأمان ولا للحب.

"انسيه، لا يستحق حبك، رجل لا يحارب من أجل ما يحب، هو في الحقيقة رجل لا يستحق سوی النسيان".

"نورا ناجي" تكتب عن الناس جميعاً، امرأة لا تهتم بالأحاديث النسوية التافهة ولا عن البطولات المزيفة للناس، بل تكتب عنا، عما يؤرقنا، وفي أعمالها كافة تسحبنا إلی جوانبنا المظلمة، التي نحاول محوها أو تركها كصفحة ماء رائق لا نود إفزاعه أو تعكير هدوئه كي لا يغرقنا بسيل جارف من الكآبة التي تُعطل حياتنا. حياتنا التي نتحايل عليها بالنجاحات والانشغال عن صوت أنفسنا، الذي لا نسمعه إلا حينما نكون وحدنا كي لا يسخر منا أحد.

"كل شخص يملك متاعبه الخاصة، أنتِ لا تعرفين شيئاً".

السرد علی طريقة نورا

في ثلاثة أعمال لنورا ناجي تجد أسلوبها المميز بالجمل الشاعرية الطويلة والسرد الملتف حول نفسه الذي يجذب انتباهك طوال القراءة. كما الأبعاد النفسية لأبطال أعمالها، ودواخلهم وأسرارهم، تجد نورا تتفوق علی نفسها في كل عمل. أقرأ الأعمال الثلاثة من الجديد للقديم فلا يهزني إلا الحضور والموهبة الطاغية لها، لا توجد غلطة واحدة يمكن أن ننسبها لقلة الخبرة أو خوض التجربة للمرة الأولى. نجد أن الأعمال الثلاثة مختلفة بطريقة معقدة، ولكنها متشابهة بطريقة بسيطة.

في "الجدار" حطمت نورا القوالب النمطية في السرد، وكتبت بحرية خاصة، بتحرر من القواعد التي تخنق وتقلص من حرية النص، تجد أنها تنتقل بين دبي، سيئول، والقاهرة كما تشاء. لا تهتم بالسنة ولا الحدث، هي تحكي وتسرد بخبرة روائية وموهبة تحمل علامة مسجلة. تجعلك تعرف صاحبة النص حتی لو لم يُذيل باسمها، يكفي أن يقشعر بدنك، أو تحرك جملة ما بداخلك ثابتاً لا يتزحزح، أو تعيد حكاية أو ذكری من ذكرياتك بحكم أنها "نورا ناجي" التي تستطيع أن تنقسم لعدة "نورات" لرواية حيوات الناس كما لو عاشتها.

"نحن نستمر في العيش، من أجل من نحبهم، ونموت من أجل أن يستمروا هم بعدنا".

عقدة الذنب التي تفصل بيننا وبين الحياة، الواضحة في "حياة" التي لا تكف عن جلد ذاتها، التي تشبهنا نحن حينما تطفو الكآبة علی سطح حياتنا وتميت بداخلنا شعور الحياة، هذا بالضبط قد يكون السبب الذي يجعل حياتنا جحيماً.

"كان الاكتئاب يحكم سيطرته عليَّ، أعرفه جيداً، وأشعر به كالجاثوم، أشعر أنني لا أستحق أي شيء".

العمل الذي يدور وتُسرد تفاصيل أبطاله في 250 صفحة، كتبته الكاتبة بعقل يقظ، لا يجفل أبسط تفاصيل أبطاله، ولا أبسط مشاعرهم، ولا المشاعر التي تسبب تراكمات لا تقوی السنون علی محو قسوتها. هذا بالضبط هو سر كمال العمل الأدبي في نظري، الذي تتطور فيه الشخصيات، وتتشعب وتتداخل مصائرهم معاً، دون ارتباك في النص الأدبي، بل بإحداث الارتباك في مشاعر من يقرأ، وجعل التفاصيل مبكية، وجعل ردود الأفعال عليه تتأرجح بين الغضب والشفقة والعطف، والتحيز لأشخاص عن غيرهم، وبطريقة فنية ما تكتب نورا دون تحيز، فقط بقدرة الأبطال على سرد حكاياتهم وتحديد الطرق التي يخطونها.

"يبدو أنني من ضمن هؤلاء الذين حكم عليهم بالوحدة، أو ربما يعاقبني الله علی جرائمي، ربما يملك هذا الحق، فأنا أشعر بالفعل، بأنني خاطئة، حقيرة، لا أستحق عطفه".

وقت قراءتي للعمل، كنت أتلكأ، هذه هي قراءتي الثالثة لعمل من أعمال "نورا ناجي" الثلاثة، كنت أُبطئ في القراءة، أعد القهوة وأدخن، وأرص أحجار النرجيلة الحجر تلو الآخر كي أستوعب ما تفعله "نورا ناجي" بأبطالها. بقدرتها علی تشريح نفسية الأبطال، وقدرتها علی تطويعهم في سرد كل أسرارهم الخفية والدفينة المبكية، كنت أقرأ وأنا أعرف أني سأنتظر أعمالاً أخری بحرارة وشوق، لأنها وحدها ضمن قلائل تتمكن من حكي الحكايات بدقة راو عليم وخبير ببواطن أصحابها، وبخبرة تجارب إنسانية أثق بأنها عارمة، وصعبة وكثيرة، وبدقة في إتيان التشبيهات المناسبة لأصغر التفاصيل وأتفه المشاعر وأعظمها دون زيادة أو نقصان.

"هذا العالم القاسي القذر، لماذا نستمر في العيش فيه؟"

رواية "الجدار" تحكي عن الحب غير المشروط، الحب المُكبل، الاكتئاب، الوحدة، عقدة الذنب، عن الأسئلة التي تدور بعقولنا ولم نجد إجابات لها. وعن الحياة التي تختنق أمام الكآبة والتجارب، ماذا يحدث لو لم نلتق؟ لماذا نلتقي الأشخاص الخاطئين؟ ماذا ولماذا ولمَ وغيرها من أدوات الاستفهام، وعلامات التعجب وإمارات الدهشة ومظاهر التعبير عن الحزن والغضب، كل هذا تم حبكه علی جسد رواية كان نصيبها من الشهرة أقل بكثير مما تستحق، ولكن مكانتها بين أبرز الأعمال الصادرة في العقد الأخير لا بد من أنها محفوظة كإحدى شهادات الميلاد المختومة بختم ذهبي يعلن ميلاد كاتبة مثل "نورا ناجي" التي أتمنی أن يستمر إبداعها للأبد كي تواسي أحبابها وقُراءها بكل ما تكتب، لأن المجد لمن كتب من أجل البشر كلهم دون تمييز.

"كانت حياة التفرد والوحدة تناسبني، لكنها بالتأكيد كانت تقودني أيضاً إلى مزيد من الاكتئاب والجنون".

أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

علامات:
سيد عبدالحميد
كاتب مقالات وقصص قصيرة
كاتب مقالات وقصص قصيرة
تحميل المزيد