العلاقات بين الدولة العثمانية وولاياتها العربية قديماً لم تكن علاقات سطحية، وخاصة إذا نظرنا إلى الولاية الأهم بالنسبة للدولة العثمانية في القرن الـ16 وهي مصر.
ومن بين الأسماء التي تُذكر عند تناول العلاقات بين الدولة العثمانية ومصر يأتي ذكر "أحمد باشا الخائن"، الذي كان واحداً من ولاة مصر الذين وُصفوا بالخيانة، لإعلانه التمرد على الدولة والسلطان العثماني "سليمان القانوني"، فمَن هو أحمد باشا الخائن، وما قصة تمرده؟ هذا ما نتعرَّف عليه في تقريرنا.
أحمد باشا الخائن.. الأصول المملوكية
تُرجع بعض المصادر التاريخية أصله إلى مماليك الألبان، ذوي الأصول القوقازية، وفي كتاب "حركات التمرد في مصر في بداية العهد العثماني" للدكتور أسامة أبو نحل، جاء أن انحدار والي مصر من أصول قوقازية مملوكية أسهم بشكل كبير في اقترابه من المماليك آنذاك، وأحد أهم أسباب خيانته للسلطنة العثمانية.
في عام 1524م عزل الصدر الأعظم إبراهيم باشا الفرنجي أحد أهم رجال السلطان سليمان القانوني، والي مصر، قاسم جزل باشا، وهو أحد ولاة مصر الذين لم يمكثوا على كرسي الولاية أكثر من عام واحد.
وكان آنذاك أحد أهم رجال الدولة العثمانية خارج أراضيها، فعيَّنه الصدر الأعظم إبراهيم باشا الفرنجي والياً على مصر، ولكن هذا التغيير القيادي الذي يبدو بسيطاً كان وراءه الكثيرُ من التوتر والصراع الدفين، وبالعودة إلى ما قبل هذا يمكننا أن نفهم دوافع رجل الدولة العثمانية لإعلان التمرد.
خلفية التوتر الدفين بينه والسلطنة العثمانية
قبل توليه الولاية، وبعد أن وضع السلطان سليمان القانوني ثقته فيه لتولي أمر إحدى أكبر ولايات المنطقة العربية، كان لأحمد باشا دور كبير في خدمة الجيش العثماني في الفتوحات الأوروبية، ومعارك الجيش في منطقة البلقان، وذاع صيته في أرجاء السلطنة؛ نظراً لصلابته وقوته في المعارك.
وآنذاك كان يتردد بقوة في البلاط العثماني أن الصدر الأعظم -كبير الوزراء- بيري محمد باشا "1548-1523" يعاني مع المرض، وبدا أنه لا مفر من استبداله بصدر أعظم جديد، وكان هو على قائمة الراغبين في هذا المنصب، ظناً منه أن هذا التعيين هو أبسط ما يُقدم له جزاءً لإنجازاته في الفتوحات العثمانية في البلقان.
ولكن الأمور خالفت توقعاته، عندما اختار السلطان سليمان القانوني إبراهيم باشا الفرنجي لمنصب الصدر الأعظم، رغم أنه لم يكن من رجال الديوان آنذاك، وعندما أعلن عن غضبه سارع الصدر الأعظم بإعطائه ولاية مصر، لإبعاده عن مركز السلطنة، واتقاءً لأية بوادر شر منه.
والي مصر.. يريد مصر وحدها
بعد تعيينه والياً على مصر، بدأ أحمد باشا في التعامل مع الشعب المصري ورجال الدولة بشكل منفرد، وبدأت قراراته وسياساته الفردية بعيداً عن استشارة السلطنة، وكانت حزمة القرارات المتشددة في الألب توجه نحو الكثير من الأعيان وكبار الضباط، مثل مصادرة الأملاك ورفع الضرائب والسجن، وحتى القتل من أجل توفير الأموال اللازمة لانشقاقه مع القضاء على العناصر التي يتوقع منها المقاومة.
وبعد هذه الحِزمة من الإجراءات بدأت مطالبته بحقه في سلطنة مصر تستشري بين رجال الولاية في مصر، وظهر إصراره بالحصول على امتيازات ملكية مثل ذكر اسمه في خطبة الجمعة، ووضع اسمه على سَكّة العملة الرسمية في مصر.
هنا كان لِزاماً على والي مصر أن يتحصن بقوة بشرية كبيرة للاستعداد لمواجهة أي صدّ سلطاني لهذا التمرد، وكانت الذراع السلطانية القريبة منه وقتها هي قوات الانكشارية فقام أحمد بك باستمالة كل من استطاع استمالته من رجال المماليك في مصر، الذين لم يدخروا أي جهد لموالاته ضد قوات السلطان سليمان القانوني.
إعلان السلطنة والضربة العثمانية القاصمة
في أوائل فبراير/شباط من عام 1524، بلغت استعداداته وتحركاته قوات الانكشارية التي تحصّنت في قلعة صلاح الدين بقلب القاهرة، ورفضت اتباع أوامر أحمد باشا بالتمرد.
وهنا هبَّ بجيش من الجند المماليك، ومن استطاع أن يضمهم إلى جيشه، بالتوجه نحو القلعة لمواجهة قوات الانكشارية فحاول مهادنتهم. وعندما رفضت الانكشارية الانصياع فرض عليها حصاراً قاسياً استمر لعدة أيام.
وفي 7 فبراير/شباط 1524م، سقطت القلعة في يد قوات أحمد باشا، وبالفعل أعلن نفسه سلطاناً، وذُكِر اسمه في الخطبة، وضُرب اسمه على سكّ العملة المصرية.
وبحسب ما روى المصدر، كتاب "حركات التمرد في مصر في بداية العهد العثماني" وأمام تفاقم الأوضاع في مصر إلى الأسوأ، خشي السلطان سليمان القانوني من فقدان مصر، التي كانت بمثابة أهم ولاياته في العالم العربي الإسلامي.
وهنا قررت السلطنة في الأستانة استخدام سلاح آخر غير المدافع والسيوف، وهو سلاح الدعاية السلبية وحرب الشائعات، وكان هذا عن طريق استخدام أقصر الطرق لتشويه الرجل الذي وصف بالخائن؛ ألا وهو اتهامه بالتشيّع وموالاة الشاه الفارسي إسماعيل الصفوي شيعي المذهب.
نجاح العثمانيين وانقلاب مضاد
لنا أن نتوقع بالطبع مدى قوة وتأثير حرب الشائعات، خاصة إن كانت في أوقات شهدت توتراً وحروباً بين دولة صفوية شيعية المنهج وأخرى عثمانية سُنية المذهب، فبعد أن انتشر في ربوع مصر موالاة "سلطانهم" المزعوم للدولة الصفوية، جاءت التفاصيل التي دعمت الشائعات وقضت على تمرد أحمد باشا الخائن.
استغلت القوات العثمانية معرفة المصريين الجيدة لاسم ظهير الدين الأردبيلي، أحد أكبر قادة الشاه إسماعيل الصفوي، وأقنعت الجميع أنه المتعاون الأول معه ضد السلطنة العثمانية لإسقاط مصر.
وهنا كانت النتيجة المفاجئة، عندما انقلبت الأوضاع بشكل حاد ضده، وانقلب عليه الكثير ممن والوه من قبل، وعلى رأسهم الأمير جانم الحمزاوي، والذي تبعه الكثير من أعيان المماليك أيضاً، وقاموا بالانعزال في أحد المعسكرات، واستطاعوا طلب النجدة من السلطان في عاصمة الحكم.
وبحلول يوم 23 فبراير/شباط 1524، سقط أحمد باشا، الملقب بالخائن، في يد القوات العثمانية الموالية للسلطان سليمان القانوني، وأرسلت حكومة "ولاية" جديدة لتسلم شؤون مصر.
وأعيد أحمد باشا إلى السلطنة في تركيا، وحكم عليه السلطان سليمان القانوني بالإعدام بتهمة الخيانة، وقطع رأسه في مطلع مارس/آذار 1524، وأرسل السلطان رأسه المقطوع إلى القاهرة، لتعليقه على باب زويلة، بمثابة تذكير بمصير الخائن.