هل تعلم الطيور منذ صغرها أين تهاجر؟

عدد القراءات
47,791
عربي بوست
تم النشر: 2020/04/04 الساعة 15:12 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2020/04/04 الساعة 15:12 بتوقيت غرينتش
هل تعلم الطيور منذ صغرها أين تهاجر؟

رواية قصيرة أو قصة طويلة، لا أعرف أيهما أفضل لوصفها. ولكن، إذا عُهد لي تصنيفها فسأقول دون تردد إنها قصيدة نثر رائعة، لأني أحب الشِعر، وأحب اللغة الشاعرية التي كُتب بها هذا النص.

"للحياة طريقتها في التطبيع مع الفقد، وبشكل ما، أن الحياة بأكملها تمرين طويل في التعامل مع الفقد".

أعرف اسم "بلال علاء" ككاتب مميز، أجد صديقة مقربة تنشر ملفاً قابلاً للتحميل بصيغة إلكترونية، أحمله على سبيل القراءة في وقت فراغ، وأنا أعلم أنني في الغالب لن أقرأه إلا بعد شهور، أفتح الملف على سبيل الاطمئنان فأجده لا يعمل. متاح للقراءة فقط، أقرأ صفحة علی سبيل تضييع الوقت، أقرأ الثانية لمعرفة لماذا قررت إضاعة وقتي في قراءة صفحة واحدة! تتوالى الصفحات، وفي النهاية أجد أنني أنهيت 87 صفحة، وأنا لا أرتدي نظارتي عكس العادة. وأجد أن بلال علاء سرق مني ثلاث ساعات دون أن أشعر، بعمله الصغير في الحجم، الكبير في القيمة، البسيط في طرحه، المعقد في فلسفته، والرائع للغاية في أسلوبه.

"كيف يمكن لحكاية أن تنتهي؟ الحكايات الحقيقية غالباً لا تنتهي"

كل شخص في العمل كنت أظنه بطل الرواية، وبعد صفحة أو اثنتين أظنه شخصية ثانوية. وبعد عدد كبير نسبياً من الصفحات، وجدت أن هذه حكايات قصيرة مترابطة، مترابطة بشكل يصعب تخيله، وكأن كل حكاية غرزة خياطة، تساهم في التئام جرح صاحبها، وتساهم في خروجه من غابة اكتئابه، التي لا يخرج منها أبداً.

"بعض العوالم في بدايتها تكون ساحرة جداً وتعدك أنها أبدية، لكنها سرعان ما تنتهي".

الفصول القصيرة توهمك بأن الحكاية حكاية "محمد" وحده، ومحمد هذا مثله كمثل كل العاديين، عادي في حزنه، في وحدته، في اكتئابه، يشبهنا، مكتئب ومتعايش. هو لا ينتحر ولكنه لا يكف عن التفكير في الانتحار، لا يتقدم للأمام منذ سنين، ولكنه لا يرجع إلى الخلف. يحب "غادة" ولكنهما ينفصلان وتتركه وحده لكآبته التي تبتلعه رويداً رويداً. تآكل الأمل والرغبة في أي شيء بداخله، محمد الذي يحب غادة وتربطه صداقة غير مفهومة بندی، ويحب أسرته ولكنه اعتاد البقاء وحده، ولا يحب عمله ولكنه لا يكره. محمد جزء من حكايته، التي تتشعب، وتصنع حكايات أخرى لأناس آخرين، حكايات مؤثرة تهز الوجدان وتجعل الروح تشعر بالحنين لكل ما مضی ولن يعود.

"بعض الحبال حينما تنفلت منا، ينفلت معها منطقية وجودها في سيرتنا، كأنها حدثت لشخص آخر تحمل ذكرياته".

علاقات الأهل، الحب، الصداقة، زملاء العمل، كلها أحداث في حياة من قيل عن حكايتهم "اللي يعيش ياما يشوف واللي يلف يشوف أكتر". كلها حكايات متشعبة عن صديق الابتدائية التي تراه صدفة ولا تذكر اسمه، عن زميل تكرهه منذ زمن طويل يكفي لنسيان السبب ولكنه لا يمحو نظرة الكره التي تغلف عينيك حينما تراه في مناسبة ما. حب ابتدائي بريء وحب إعدادي وثانوي نابع من تأثير "التستوستيرون". حب الجامعة الذي في الغالب ينتهي قبل نهاية الطريق بوجود عريس مناسب لها وتركك أنت تكتب شعر رديئاً وتدخن لأول مرة لأن هذا سيحولك لشخص مدخن طيلة حياتك لأنك ستعوض الفقد بالسجائر. الكثير من الحبال التي تربطنا بالناس والأماكن والعادات، لأننا تكيفنا على وجود الحبل بيدينا.

"لكل مرء حبال عديدة، حبال ثخينة تربطه بأقرب أصدقائه، حبال أوهن تربطه بزملائه، حبال تربطه بمن يحبهم".

أسوأ ما في الحياة هو الحنين المغلف بجلد الذات، لو كنت كذا لفعلت كذا، لو لم أحبها لما كانت حياتي بائسة بسبب ذكری انتهت، الكثير من الروابط، والمشاعر التي لا ترحل حتی بعد رحيل أصحابها.

الرواية القصيرة التي كتبها "بلال علاء" فانتازيا من نوع خاص، عالم يطير فيه الناس، وآخرون واقفون في غاية الكآبة والروتين لا يتحركون أبداً. رواية جميلة في لغتها وحواراتها القليلة وأفكارها المتشعبة، وحكاياتها المترابطة، المحبوكة بقوة ودقة، جميلة لأنها بسيطة، وسر بساطتها يكمن في أبطالها المعقدين، الذين يشبهوننا للغاية.

"ربما تكون السعادة عمی مؤقتاً عن احتمالات الحاضر المستقبلية".

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

سيد عبدالحميد
كاتب مقالات وقصص قصيرة
كاتب مقالات وقصص قصيرة
تحميل المزيد