لا يعرف حكايات النساء إلا النساء، ولا يمكن معرفة ما يكمن داخل أرواح تلك الكائنات العظيمة إلا من خلال أوراق كتبتها كاتبة مميزة كنورا ناجي.
"مهووسة أنا بفكرة الموت، أفكر دائماً في كيفية الموت، كيف سيحدث، متى؟أين؟ من سيكتشف جثتي؟ من سيغسّلني؟ ما الذي سيقولونه عني؟"
"بنات الباشا" عمل الكاتبة المصرية "نورا ناجي" الذي ترشح لجائزتي "ساويرس" و"يوسف زيدان". ولسوء حظ تلك الجوائز أنها لم تتشرف بحصول هذا العمل علی أي جائزة فيهما، لأن الجوائز تُمنح لأعمال مثل تلك التي تجعل المرء شفافاً أمام نفسه، يبكي ويقشعر بدنه، ويتأثر بكل جملة موضوعة في مكانها الصحيح، وموزونة بميزان الذهب الذي تمتلكه "نورا ناجي" حينما تكتب.
"بنات الباشا".. الرواية تحكي عن النساء، عدة نساء داخل مركز تجميل نسائي، لكلٍّ منهن حكاية، ولكل حكاية مفردات وكلمات وخيوط ترابط حزينة جداً، تجعل كل قصة من تلك القصص مثالاً حياً على بؤس النساء في مجتمعنا. وعن نصيب الجميلات من الحياة الذي يكون في أغلب الأحوال أكثر من نصفه تعاسة وغماً.
"نحن جميعاً وحيدون، ما يهمّني ألا أموت أمام أحد، لا أريد أن أموت في انفجار أو في الشارع أو في مكان عام، أريد أن أموت في منزلي بصمت".
"ناديا، جيلان، منی، جيجي، نهال، فلك، -الباشا- أم لوسيندا، ياسمين، ورد، زينب، آنسة غير مرئية لأحد".
لكل شخص قصة ما حولت حياته من جهة لأخرى، ولا أحد فيهم يملك العودة للخلف، ولا حتی البكاء على الماضي أو الحزن على ما جری. كل شخص منهم يمكنه تذكر الأحداث والعودة بالذاكرة للقصة التي تغير من خلالها كل شيء، والتي أتت به إلى مركز الباشا.
نورا ناجي التي تعرف كل النساء
امرأة واحدة فقط تمتلك عدة أرواح، ويمكنها أن تنقسم لعدة "نورات" تمكنها من عيش حياة النساء الأكثر حزناً وبؤساً ووحدة، والأكثر عزلة وعدمية، والأكثر رغبة في التلاشي، والاختفاء، والذوبان من هذا العالم الظالم الذي لم ينصف المستضعفات يوماً.
الكاتبة "نورا ناجي" امرأة بعدة قدرات، يمكنها أن تمرر المشاعر من خلال الأوراق والكلمات المكتوبة بالحبر العادي، لتجعلها -وبطريقة ما- تمس الروح، وتنبش الأوجاع القديمة والذكريات التي غلفها الزمن بنوع من النسيان.
"الموت لا يخيفني، البشر هم من يخيفونني فعلاً".
الغريب أن الأبطال في عوالم نورا ناجي ليسوا كمن نراهم على شاشات التلفاز، لا يمكنهم الطيران أو حمل الشاحنات الثقيلة، ولم يعهد لهن أحد مهمة إنقاذ الكوكب الخَرِب. الأبطال في عالم "نورا ناجي" أشخاص عاديون، بؤساء مثلنا، أو أسوأ منا حظاً، حيث كان من الممكن أن نكون أياً منهن بمجرد تحول بسيط في الظروف. وطوال القراءة أقول ماذا يمكن أن يحدث لو ولدت امرأة تشتهي النساء ولا أحد من عائلتها تقبلها مثل "منی" في رواية "نورا"، وهذا الخاطر المرعب جعلني أرتجف وأحمد الله أنني كما أنا، لأن الوقوع في هذا الاختبار يؤدي بكل الأحوال لخيارات حزينة توجب على المرء العزلة القسرية والانطواء والانزواء في أي مكان متمنياً الموت.
"علی الله أن يحبني كما أنا أو أتركه أيضاً".
أقرأ وأقول لو كنت وُلدت امرأة كان من الممكن أن أكون -بلانة- في صالون تجميل، كل ما أفعله هو نزع الشعر من أجساد النساء والسماع لقصصهن الحزينة، أو أنزع شعر الوجه بالفتلة مثل "جيلان"، وأكتشف أن تلك الفتلة التي يمكنها أن تنقذ امرأة وأمها من الموت جوعاً وفقراً.
أتساءل عن مصير أبطال نورا ناجي الحقيقيين الذين يعيشون بالفعل معاً، وربما لا نراهم أو لا نعرف عن ماضيهم شيئاً، وهذا ما يجعلنا نعتقد أنهم أشخاص عاديون سطحيون لا يمتلكون أي حكايات. أتساءل كيف يمكن أن تحتوي صفحات رواية كل هذا الكم من التضارب والإرباك والتخبط في حياة عدة نساء، حاكت "نورا ناجي" قصتها عنهن كثوب غالٍ لا يُقدّر بثمن، ولا يضاهي جماله أي عمل. ما السر الغريب في الشاعرية المضبوطة في لغة نورا ناجي، ولماذا قد تنساب الدموع رغماً عنك وأنت تقرأ عمل كهذا، رغم معرفتك بأنه لكاتبة مرموقة تخطو على جسر ممهد من القدرة الإبداعية وحدها، وبمسافة بعيدة عن أقرب المنافسين.
"في هذا العالم يعتقد الجميع أن الجميع مسطّحون، الأفلام خرّبت عقول البشر".
نظن أننا وحدنا نعاني، وأننا وحدنا نتألم، وأن كل من حولنا هم أشخاص باردون لا يشعرون، ولا نعلم أن الحزن مُقدر ومكتوب سلفاً، وأن الحظ الجيد والتعس لا يمكن تغييره إلا إذا حاولنا فعل هذا بكل قسوة، ولكن علينا دفع الثمن، لأن لكل شيء ثمناً قد يجعلك تندم طوال حياتك لاختيارك شيئاً مُراً بدلاً من شيء قاسٍ.
"يأتي الموت فجأة لينتزع من نحبهم من وسطنا قبل أن نخبرهم بكل شيء".
ما السر الذي يجعل الموت واقعياً أكثر من رؤيته مُتشكلاً أمامنا!
في عدة مشاهد من الرواية حضر الموت مُعلناً عن نفسه، أحياناً يأتي فجأة، أحياناً أخری ينذر قبل قدومه، ولكن قدرة "نورا ناجي" على وصف تلك الحقيقة المحزنة والقاسية شيء يوحي بالدهشة. هذه امرأة تجعلك تشعر وكأنها رأت الموت بشكل مجسم كي تستطيع أن تكتب عن قسوته بتلك الدقة التي تجعل الدموع تنساب دون قدرة منك على كبحها، تستطيع أن تصف الفقد في أشد حالاته حتى تشعر وكأن قلبك يُخلع من مكانه تأثّراً.
"لا أحد يدري بما يحدث في قصّة الشخص المجاور له، نحن كُتب مغلقة رائعة الأغلفة، كتابي كان بغلاف ملون صاخب، لكن صفحاته كانت رمادية كئيبة، تُمرض من يقرأه".
كل البنات في صالون الباشا صاحبات حكايات واقعية جداً، ربما أنت نفسك سمعت واحدة منها عن طريق أي شخص، والكتابة عن هذا تبدو فعلاً شائكاً جداً مليئاً بالبكاء والحزن، ولحظات الاضطراب، والارتباك مع كل هذا العدد من الشخصيات الذين جمعتهم الصدفة وحدها عند أجمل رجل في المدينة، الذي بدوره يمتلك حكاية قد تبدو وسط كل حكايات النسوة حكاية مرفهة، ولكنه في النهاية جمع كل النساء في هذا المكان ليسمعن حكايات نساء أخريات، ويضمد جراح نسائه أو بناته كما أطلقت عليهن الكاتبة.
"الحزن مجرد محطة، إنه دفعة يمنحها لنا القدر، لنتمكن من تحقيق ما لا نجرؤ علی فعله".
سيد عبدالحميد هو كاتب مقالات وقصص قصيرة. يكتب في عدة مواقع إلكترونية عربية. وصدر له "لارا" و "الاكتئاب بين التعايش والانتحار ".
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]