"كان ظلوماً، جباراً، ناصبياً، خبيثاً، سفاكاً للدماء، وكان ذا شجاعة وإقدام ومكر ودهاء، وفصاحة وبلاغة وتعظيم للقرآن. وله حسنات مغمورة في بحر ذنوبه، وأمره إلى الله. وله توحيد في الجملة، ونظراء من ظلمة الجبابرة والأمراء".
من هو ومن أين أتى؟
هو أبو محمد الحجاج بن يوسف الثقفي، نشأ في الطائف، حيث وُلد في قرية الكوثر في سنة 40 هجرياً، كان يُعلّم الصبيان القرآن الكريم، وقيل إنه كان يعمل دبّاغاً أو بائع زبيب، كان والده من سادات ثقيف وأشرافهم في الطائف، وهي مسكن ثمود القديم.
كان الحجاج فصيح اللسان، بليغاً في الخطابة والشعر، وحافظاً للقرآن الكريم كعادة أهل الطائف الذين أثنى عليهم عثمان بن عفان -رضي الله عنه- عندما وجد خطأً في إحدى نسخ القرآن الكريم، قائلاً "إن الناقل لم يقل من الطائف".
أنا لجوج حسود حقود
اتّصل كليب -هو اسم الحجاج- بروح بن زنباع الجذامي، رئيس الشرطة في عهد عبدالملك بن مروان بن الحكم، وكان بمنزلة المستشار، أو يكاد يكون وزيره الخاص لدى الخليفة الأموي.
رشَّحه رئيس الشرطة إلى عبدالملك، الذي قضى في سُدة الحكم واحداً وعشرين عاماً ليكون رئيس الجند، مثنياً عليه. وصف الحجاج نفسَه أمام الخليفة قائلاً: "أنا لجوج حسود حقود"، فقال عبدالملك له: "إذاً بينك وبين إبليس نسب"، ما يدل على جرأة الحجاج وغلظته.
وكان الحجاج شديد الغلظة، ذات مرة وجد الجند يأكلون فأمرهم فلم ينصتوا إليه وسخروا منه، فجلدهم بالسياط، وأشعل النار في خيامهم، فشكاه روح بن زنباع إلى عبدالملك، فقال له الحجاج: أنت والله فعلتَ، فإنما يدي يدك وسوطي سوطك، فأثنى عليه عبدالملك قائلاً "إن شرطيكم لَجلد".
رمى الكعبة بالمنجنيق
قام الحجاج بترشيح نفسه لحملة الخروج إلى عبدالله بن الزبير بن العوام قائلاً: "إني رأيت في المنام أني قتلته وسلخته فابعثني إليه". وكان عبدالملك بن مروان قد بسط يده على العراق -بعد مقتل مصعب بن الزبير- والشام ومصر واليمن والمدينة، وحاصر ابن الزبير في مكة عسكرياً واقتصادياً.
نصب الحجاج المنجنيق على جبل أبي قبيس، وظل يضرب أهل مكة بالحجارة والنار، وقال لبعض أهلها الذين خرجوا له: "والله إني كاره لما ترون، ولكن ماذا أصنع وقد لجأ هذا إلى البيت"، فأمر طارق بن عمرو أن يكف عن قذف الكعبة والحُجاج، بعد تدخل من عبدالله بن عمر وبعض الصحابة، الذي قائل له: "اتق الله فإنك في شهر حرام وبلد حرام".
وقتل ابن الزبير وأرسل رأسه إلى عبدالملك بن مروان وصلب جسده، وطلبت أمه السيدة أسماء بنت أبي بكر الصديق رضي الله عنهما أن تدفنه، لكنه أبى، ومن ثم أرسل إليه عبدالملك بن مروان قائلاً له: "هلا خليت بينه وبين أمه". وانتهت حركة عبدالله بن الزبير التي استمرت نحو 12 عاماً من أيام حكم مروان بن الحكم إلى ابنه عبدالملك، واستتب الأمر للخليفة الأموي الذي يعتبر المؤسس الثاني للدولة الأموية، بمساعدة الحجاج، رجله الأول وساعِده القوية، الذي أجزل لأهل مكة بالعطايا رغم نبذهم له.
يا أهل الشقاق والنفاق
أرسل الحجاج إلى عبدالملك يطلب منه أن يوليه على العراق قائلاً: "إني قد ضبطت الحجاز بشمالي وبقيت يميني فارغة"، فوافق عبدالملك.
دخل الحجاج الكوفة، وجمع الناس في الجامع وصعد على المنبر، ثم سكت سكتة طويلة، ما يدل على معرفة الحجاج بمهارات الخطابة، التي تستدعي أن تصمت أحياناً ليعمّ الهدوء المكان، لكن طال السكوت، فظنّ البعض أنه لا يقدر على الخطابة، وذمّه البعض ذماً شديداً، حيث قال محمد بن عمير "لعن الله هذا ولعن من أرسله، إنه غلام لا يستطيع أن ينطق، قاتله الله ما أغباه وما أذماه"… بعدما أطال السكوت قام منتفضاً، ثم تحدّث فأسكت "أنا ابن جلا وطلاع الثنايا متى أضع العمامة تعرفوني"، ثم أردف بكلماته المشهورة حتى وقت الناس هذا: "يا أهل الكوفة، إني لأرى رؤوساً قد أينعت، وحان قِطافُها، وإني لَصاحبُها، وكأني أنظر إلى الدماء بين العمائم واللحى…" إلى آخر خطبته الشهيرة، التي ختمها بتأكيده على أن من يتخلف عن القتال مع المهلب بن أبي صفرة ضد الخوارج ليضربن عنقه.
أعقبها بخطبة أخرى على أهل البصرة، كان وقعها شديداً على الآذان "أيها الناس، من أعياه داؤه، ومن استطال أجلُه فعليّ أن أعجله، ومن ثقل عليه رأسه وضعت عنه ثقله، ومن استطال ماضي عمره قصرت عليه باقيه، إن للشيطان طيفاً، وإن للسلطان سيفاً، فمن سقمت سريرته صحت عقوبته…" إلى آخر خطبه في العراق التي استطاع بعدها القضاء على الفتن والثورات الداخلية فيما بعد. وكانت العراق تعجّ بالفتن والثورات الداخلية، كان أبرزها ثورة ابن الجارود، وحربه ضد الخوارج الأزارقة والصفرية، وثورة مطرف بن المغيرة، ومن ثم حربه الضروس ضد ابن الأشعث، التي استمرت نحو ثماني سنوات، وومنها حركتا مطر بن ناجية الرياحي، وعبدالرحمن بن عباس.
مقتل التابعي الجليل
تلقى التابعي الجليل سعيد بن جبير العلم على يد عبدالله بن عباس، وعبدالله بن عمر، والسيدة عائشة رضي الله عنهم، وقرّبه إليه الحجاج وولاه القضاء. لكنه خرج مع ابن الأشعث ضد الحجاج ونقض بيعته لعبدالملك بن مروان، وأسر ابن جبير وهرب إلى أن استقر في مكة، فقبض عليه خالد القسري وسلمه إلى الحجاج بعد 11 سنة من قيام ثورة ابن الأشعث.
وقيل إنه عندما وصل إليه قال الحجاج: لعن الله ابن النصرانية، يقصد خالد القسري، أما كنت أعرف مكان بن جبير، بلى والله كان في مكة. وقبل مقتله وجه بن جبير حديثه إلى الحجاج: "عجبت من جرأتك وحلم الله عليك"، وردّ الحجاج عليه "إنما أقتل من شق عصا الجماعة وأراد الفرقة التي لم يأمر بها الله"، وهنا اختلفت الروايات بشأن الحديث الذي دار بينهما.
العجب، بل كل العجب لأمر الحجاج الذي قتل التابعين وفتح البلاد، حيث فتح خراسان بقيادة المهلب بن أبي صفرة، ومن ثم قتيبة بن مسلم الذي فتح بلاد السند (باكستان حالياً)، وإمارة قنوج في الهند.
ويروي ابن الجوزي في كتابه "صفوة الصفوة" أن الحجاج كان يختم القرآن الكريم كل أربعة أيام، وفي شهر رمضان يختمه كاملاً بين المغرب والعشاء، وقيل إن الحجاج أسهم في تنقيط القرآن الكريم بعد عدة محاولات سابقة، كانت أولاها لأبي الأسود الدؤلي. وقد كثرت الروايات في هذا الشأن.
وأنه من أشار على عبدالملك بن مروان بسكّ عملة عربية بعد انتشار العملة الفارسية واليونانية بعد عدة محاولات سابقة من الخلفاء الراشدين، لكن لم تكن العملة مستقلة بشكل ذاتي كما حدث في عهد الحجاج، وعمد الحجاج إلى تعريب دواوين العراق، التي كانت باللغة الفارسية، واعتنى بالأسطول وأدخل فيه سفناً جديدة.
اللهم اغفر لي فإن الناس يزعمون أنك لا تفعل
مات الحجاج متأثراً بسرطان المعدة، حيث دار حوار بينه وبين المجاشعي قبل وفاته، حينما قال المجاشعي له "يا حجاج ما بك من غمرات الموت وسكراته؟" فردَّ عليه "غم شديد وجهد جهيد وألم مضيض ونزع جريض وسفر طويل وزاد قليل، فويلي ويلي إن لم يرحمني الجبار".
وروي أنه قال أيضاً "إن كنت مسيئاً فليست هذه ساعة التوبة، وإن كنت محسناً فليست ساعة الفزع"، كما روي أنه دعا قائلاً: "اللهم اغفر لي فإن الناس يزعمون أنك لا تفعل".
وترك وصيته التي قال فيها الشهادة، وأثبت ولاءه للوليد بن عبدالملك، الخليفة في ذاك الوقت، الذي حزن عليه حزناً شديداً، لأنه رجل بن أمية الأول، وقال عنه ابن كثير: "كان فيه شهامة عظيمة، وفي سيفه رهق الهلاك والظلم، وكان يغضب غضب الملوك، وكان جباراً عنيداً مقداماً على سفك الدماء بأدنى شبهة".
وحدثت واقعة بعد موته، إذ دخل يزيد بن أبي مسلم على سليمان بن عبدالملك الذي تولى الخلافة عقب موت أخيه الوليد بن عبدالملك، فسأله سليمان: "أترى الحجاج استقر في قعر جهنم أم يهوى فيها؟" فردّ يزيد: "يا أمير المؤمنين إن الحجاج وطأ لكم المنابر وأذل لكم الجبابرة، يأتي يوم القيامة عن يمين أبيك وعن يسار أخيك فضعه من النار حيث شئت".
بين الطيف والسيف كان الحجاج يدون اسمه على صفحات التاريخ، بمزيج كثيف من الدم والحبر، مات الحجاج بين يوسف في رمضان عام 95 للهجرة، في الثانية والخمسين من العمر. وخلّف مآثر جمة في إخماد الفتن وتوحيد الدولة والفتوحات والعمران والإصلاح، كانت ولايته بالفتوحات أوسع ولاية عرفها والٍ في التاريخ، لكن صورته كطاغية ظلت هي الماثلة.
المصادر:
- ربيع الأبرار ونصوص الأخبار في المحاضرات للزمخشري
- أطلس الدولة الأموية لكاتبه سامي المغلوث
- الحجاج بن يوسف الثقفي المفترى عليه لكاتبه محمود زيادة
- سير أعلام النبلاء للذهبي
- البداية والنهاية لابن كثير
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]