أَزوركَ أَم تزور فإنّ قلبي إِلى ما تشتهي أبداً يميلُ
وَقد أمّلت أن تظمى وتضحى إِذا وافى إليك بيَ المقيلُ
فَثَغري مورد عذب زلال وَفرع ذُؤابتي ظلٌّ ظليلُ!
بمثل هذه الأبيات الجريئة، كانت الشاعرة الأندلسية حفصة بنت الحاجّ الركونية، تخاطب حبيبها أحمد بن عبد الملك بن سعيد المكنّى بأبي جعفر والذي كان شاعراً أيضاً لا يُقل بوصف محاسن حبيبته وهيامه بها وشوقه إليها.. لذا لم يكن عجيباً أن تكون قصة حبهما حديث العامة في شوارع غرناطة وأزقتها، والخاصة في قصور الأندلس والمغرب.
بعد انهيار دولة المرابطين في الأندلس، اعتلى الموحدون عرش السلطة في المغرب والجزيرة الأندلسية، في تلك الفترة التقى الشاعران ببعضهما ووقعا في الغرام، لكن وكغالبية قصص الحب التي خلدها التاريخ، لم يكتب للحبيبن التلاقي بعد أن أغرم أمير الموحدين وابن خليفتهم كذلك بحفصة وراح يدبر لتفريق الحبيبين عن بعضهما.
من هي حفصة بنت الحاج الركونية؟
بالرغم من أنها لا تملك شهرة الولادة بنت المستكفي، فإن المؤرخين أجمعوا على أن هذه الحسناء الأندلسية كانت أشعر من ولادة، لكنها لم تنحدر من سلالة الملوك والخلفاء كبنت المستكفي.
مع ذلك، كانت حفصة التي ولدت في غرناطة في عام 1135 ذات حسب ونسب ومال، إلى جانب حسنها وجمالها اللذين يأسران كل من تقع عينه عليها.
عدا عن ذلك فقد كانت حفصة أديبة تنشد الشعر، ملمة بالعلوم والمعارف، فقد حرص والدها على تعليمها وأشرف على تثقيفها منذ نعومة أظفارها.
حتى أن الأديب والمؤرخ الأندلسي لسان الدين بن الخطيب قال فيها: "أديبة أوانها، وشاعرة زمانها، فريدة الزمان في الحسن والظرف، والأدب".
من هو أبو جعفر بن سعيد؟
أما أحمد بن سعيد المكنى بأبي جعفر، فكان كحبيبته حفصة، شاعراً رقيقاً محباً للأدب منذ الصغر، استقل والده بقلعة بني يحصُب الواقعة بالقرب من غرناطة في الفترة ما بين سقوط المرابطين وقدوم الموحدين، واتخذ من ابنه أبي جعفر وزيراً واستنابه في شؤون الحكم.
إلا أن أبا جعفر لم يصبر على الحكم وشؤونه، وأصر على والده أن يعتزل هذا الأمر، فقد كان يميل إلى الاستمتاع بملذات الحياة ولا يقوى على حمل أعباء حكم قلعة والده.
وقد لمع نجم الفتى الذي كان يبلغ بالكاد العشرين من عمره، عندما استلم الموحدون حكم الأندلس بعد انهيار دولة المرابطين، فقد ألقى الشاب قصيدة عصماء بين يدي الخليفة الموحدي الجديد عبدالمؤمن بن علي، فنالت القصيدة إعجاب الخليفة وأثنى عليها وذاع صيت أبي جعفر بين شعراء الأندلس.
قصة حب حفصة الركونية وابن سعيد
لا يعرف المؤرخون كيف التقى الحبيبان على وجه التحديد، لكن يرجح أن الصيت الذائع لكل منهما في الشعر والأدب قد كان سبباً في لقائهما.
فقد كان أبوجعفر مقرباً من والي غرناطة الأمير أبي سعيد بن عبدالمؤمن (ابن خليفة الموحدين عبدالمؤمن بن علي) بسبب شعره البديع، حتى أن الوالي عينه وزيراً له.
أما حفصة فقد كانت هي الأخرى على اتصال بعدد من رجال المجتمع في غرناطة، فضلاً عن اتصالها بعدد آخر في مرّاكش العاصمة الموحدية.
وبغض النظر عن طريقة اللقاء، سرعان ما انتشرت قصة حبهما وبات يعرفها القاصي والداني في الأندلس والمغرب على حد السواء.
وكانت حفصة تغار على حبيبها غيرة شديدة، قد قالت في ذلك:
أغارُ عليكَ من عينيْ رقيبي ومنكَ ومن زمانك والمكانِ
ولو أنّي خبّأتُك في عيوني إلى يوم القيامة ما كفاني
لكن وكغالبية قصص الحب التي خلدها التاريخ، لم يكتب للحبيبين التلاقي ولم تكلل علاقتهما بالزواج بعد تدخل العذال بينهما.
والي غرناطة يقع في غرام حفصة
كانت حفصة جميلة لدرجة أن كل من يلقاها يقع في هواها، ولم يكن والي غرناطة الموحدي أبو سعيد بن عبدالمؤمن استثناء، على الرغم من أنه كان يعلم يقيناً مدى تولع وزيره أبي جعفر بحفصة.
ويذكر بعض المؤرخين أن تعلق والي غرناطة بحفصة لم يكن فقط بسبب حسنها وبراعتها في الشعر، بل كان كذلك لغيرته من وزيره أبي جعفر ومن الأشعار التي كانت حفصة ترسلها إليه.
المنافسة بين الأمير والوزير
لم يكن هناك مجال للمقارنة ما بين الشاعر الرقيق أبي جعفر وأبي سعيد الأمير الجافي الطباع القادم من الصحراء، لكن مكانة الوالي الرفيعة وقوته وسلطته كانت مصدر تهديد للحبيبين.
أضمر الوزير أبو جعفر في نفسه انزعاجه من والي غرناطة الذي راح أيضاً يصرح بهواه لحفصة، ولما ضاق ذرعاً بذلك هجاه بأبيات شعر قاسية وصلت إلى الوالي الذي غضب بدوره فزاد من تضييقه على وزيره وحرص في كل فرصة على إهانته والحط من قدره بين الناس.
أما حفصة فباتت تخشى على أبي جعفر من بطش الوالي، وتتردد في إرسال الخطب إليه، وكانا لا يلتقيان إلا سراً خوفاً من الوالي الذي دخل عالمهما وفرق بينهما وجعل الزواج بينهما أمراً مستحيلاً.
الحب الذي قتل صاحبه
لم يصبر أبوجعفر على الجفاء الذي حل بينه وبين حفصة بسبب الأمير والي غرناطة، فحسم أمره وقرر التمرد وإعلان العصيان ضد الوالي.
فالتجأ إلى أحد الثوار المتمردين ضد سلطة الموحدين في شرق الأندلس، وكان يدعى محمد بن مردنيش، لكنه لم يتمكن من إتمام مسيرته وجبن ثم فرّ إلى مالقة، ليركب منها البحر إلى بلنسية، ولكن عمال الأمير الموحدي اكتشفوا أمره وقبضوا عليه، فأمر بقتله، وكان مصرعه في العام 1164.
ومما يُحكى أن أبا جعفر كان يستشعر أن موته سيكون بسبب حفصة، فقد اعتاد أن يقول لها: والله لا يقتلني أحد سواكِ؛ وكان يعني أن حبها سيقتله، وقد صدق إحساسه بطريقة أو بأخرى.
حفصة تعلن الحداد وتهجر غرناطة
بعد مقتل أبي جعفر أعلنت حفصة الحداد ولبست السواد، بالرغم من التهديدات التي وصلتها من الأمير بعقابها إن هي استمرت بالحداد على أبي جعفر الخائن الذي كان يخطط للانقلاب على الموحدين.
مع ذلك استمرت حفصة بلبس السواد ونسج الأشعار التي ترثي حبيبها المقتول، ولم يعد العيش في غرناطة هنيئاً لها بعد مفارقة الحبيب، فتوجهت إلى مراكش عاصمة الدولة الموحدية في المغرب. وهناك التقت بسلطان الدولة الموحدية أمير المؤمنين عبدالمؤمن بن علي واستجارت به من ولده الأمير والي غرناطة، فأجارها وعينها مؤدبة ومعلمة لبناته.
وبقيت حفصة في مراكش على هذا الحال إلى أن توفيت هناك وهي تنازع الخمسين من عمرها دون أن تنسى قط حبيبها أبا جعفر.