ملكة فرنسية أنجبت ملكين حكما إنجلترا أحدهما "ريتشارد قلب الأسد"، واستطاعت بذكائها وجرأتها في استخدام نفوذها السياسي أن تصنف على أنها المرأة الأعلى منزلة في تاريخ العصور الوسطى.. إنها إليانور آكيتاين التي كانت المرأة الأقوى في أوروبا في القرن الثاني عشر.
نشر أعداؤها الكثير من الأقاويل والشائعات للنيل منها ومن المكانة التي تبوأتها في أوروبا فمنهم من اتهمها بسفاح القربى مع عمها، ومنهم من صورها امرأة لعوباً مندفعة وراء ملذاتها، لكن إليانور كانت ملكة ذكية استطاعت أن تحكم بلدين وقادت حملات صليبية بنفسها إلى جانب زوجها الأول لويس السابع.
فلنتعرف على سيرة هذه المرأة الاستثنائية، بحسب ما ورد في شبكة National Geographic الأمريكية.
إليانور آكيتاين المحبة للفن والأدب
لم يكن من المتوقع أن تصبح إليانور ابنة دوق آكياتين ويليام العاشر واحدة من أهم حكام العصور الوسطى، فقد نشأت كفتاة نبيلة يتم تحضيرها لتكون زوجة لأحد النبلاء.
كان والدها محباً للفنون، أما جدها الدوق فقد كان شاعراً، وكانت عائلتها تقدس العلوم، لذلك حصلت إليانور على تعليم رفيع المستوى، إذ تعلمت الرياضيات والفلك والتاريخ والأدب واللاتينية والموسيقى.
كما تعلمت الفنون والحرف اليدوية مثل التطريز والحياكة والغزل، والرقص والغناء والصيد وركوب الأحصنة.
من دوقة إلى ملكة
خلال القرن الثاني عشر كانت الملكية تكتسب المزيد من القوة وتنتشر وتتوسع في أنحاء أوروبا عن طريق التحالفات التي تشكلت وربطت البلدان معاً.
ولكن طبقة الأرستقراطيين النبلاء داخل كل مملكة ظلت تتمتع بنفوذ قوي، وكان لابد من احترامهم.
في فرنسا، حكمت سلالة كابيتيون الملكية جزءاً من شمال وسط فرنسا، وفي وقت ولادة إليانور في العام 1124، كان الملك لويس السادس (الذي يُعرف أيضاً بـ "لويس السمين")، متربعاً على عرش فرنسا.
كانت فرنسا كما نعرفها الآن مقسمة إلى إقطاعيات قوية؛ مثل نورماندي وبريتاني وآكياتين، وأقاليم أكبر؛ مثل فلاندر وأنجو ولورين وشمبانيا وبورغوني وطولوز، ومن بين الإقطاعيات، كانت إقطاعية آكياتين هي الأكبر والأكثر ثراءً ونفوذاً.
ارتسمت معالم مستقبل إليانور بشكل واضح عندما توفي أخوها الأصغر عام 1130، لتصبح بذلك هي الوريثة الشرعية لممتلكات والدها.
وعندما توفي والدها على نحو غير متوقع في أبريل/نيسان 1137، أثناء رحلة الحج إلى بلدة سانتياغو دي كومبوستيلا في إسبانيا، أُجبرت إليانور على الدخول إلى عالم السياسة المعقد في العصور الوسطى وهي لا تزال في بداية سن المراهقة.
قبل وفاة والدها بفترة قصيرة، وجد الملك الفرنسي لويس السادس أن تزويجها لابنه يعتبر الطريقة الأنسب لإخضاع أراضي آكياتين تحت سيطرته، وسرعان ما أعلن خطبة الدوقة إليانور على ابنه البالغ من العمر 17 عاماً، والذي سيصبح في المستقبل الملك لويس السابع.
البلاط الفرنسي لم يناسب العروس الشابة
أُقيم حفل الزفاف في 1137، وبعد سبعة أيام، تُوفي لويس السادس، ليصبح بذلك الزوجان المراهقان لويس السابع وإليانور ملكاً وملكة على عرش فرنسا.
وبرغم زواجهما لم تخضع أراضي عائلة إليانور إلى سيطرة الكابيتيون، فوفقاً لبنود وصية والدها، كان على الملكة إليانور أن تنجب ابناً ذكراً أولاً، يصبح دوق آكياتين الجديد عندما يبلغ سن الرشد، ثم تنتقل الأراضي رسمياً بعد ذلك إلى عائلة لويس.
وبحسب العديد من الروايات، كانت إليانور امرأة مشرقة ومرحة ومفعمة بالنشاط، ولم تُلبِ الحياة في البلاط الملكي توقعات العروس الشابة التي اعتادت على احتضان بلاط آكياتين للشعراء والثقافة الرفيعة والتحرر الأخلاقي.
كان البلاط الملكي في باريس وشمال فرنسا أكثر تحفُّظاً، حتى أن الشاعر الفرنسي الشهير ماركابرو، الذي تبع إليانور إلى البلاط الملكي، طُرِدَ من البلاط بسبب قصائده الشهوانية من وجهة نظرهم.
لم تكن إليانور سعيدة في زواجها من لويس السابع الذي كان أقرب إلى "الكاهن" منه إلى "الملك" حسب تعبيرها، فقد كان متقشفاً ومتزمتاً، وهو ما يتناقض بشكل ملحوظ مع شخصية الملكة.
ولم يحظ الزوجان سوى بابنتين من هذا الزواج، وبحسب معظم الروايات، أدّى عدم إنجاب إليانور لأبناء ذكور إلى زيادة التوترات بين الزوجين.
ملكة الحملة الصليبية
بدأت الحملات الصليبية عام 1095 بالحملة الصليبية الأولى التي استهدفت استعادة المواقع المقدسة الواقعة تحت سيطرة المسلمين،
وبلغت ذروتها عندما سيطرت القوات الأوروبية على مدينة القدس في صيف 1099.
وبعد إعلان نجاح الحملة الصليبية، غادر العديد من القادة والقوات الأوروبية إلى بلادهم، مما جعل المناطق التي استحوذوا عليها عرضة للهجوم وأصبحوا مهددين بفقدانها مجدداً.
وفي بدايات القرن الثاني عشر، بدأت القوات الإسلامية بالتجمع في حلب والموصل، ونجحت في الاستيلاء على مدينة إديسا الأرمينية 1144 (مدينة أورفة حالياً).
بعد ذلك، نظَّم البابا إيجين الثالث حملة من أجل حماية المناطق التي نجحوا في الاستيلاء عليها سابقاً في الشرق و "استعادة" مدينة إديسا، وقرر لويس السابع المساعدة في قيادة الحملة الصليبية، وانضمت إليه الملكة إليانور.
إذ كان سكان مقاطعتها يمثلون الجزء الأكبر من القوات الفرنسية، وكانت إليانور قائدة عليهم، بصفتها دوقة آكياتين.
اتهمت بسفاح القربى والتسبب بهزيمة الحملات الصليبية
غادر الزوجان إلى الأراضي المقدسة في يونيو/حزيران 1147.
وبدأ منتقدو إليانور، الذين يسعدون بنشر الشائعات عنها، في سرد قصص عن تجاوزاتها ويلقون اللوم عليها في بعض الإخفاقات العسكرية، ولا تزال بعض من تلك المفاهيم المغلوطة سائدة حتى اليوم؛ من أشهر تلك الشائعات أنها أحضرت معها في الحملة 300 وصيفة امتد موكبهن على مسافة عدة كيلومترات مما تسبب في إبطاء تقدّم الحملة.
بعدما تجاوزت الحملة مدينة القسطنطينية، بدأت تواجه القوات الإسلامية في آسيا الصغرى، وكانت المعارك الأولى كارثية بالنسبة للقوات الفرنسية.
في أوائل عام 1148، وصل الزوجان الملكيان إلى أنطاكية واستقبلهما ريموند الثاني، عم إليانور.
كان الجو العام مشحوناً بالتوتر، إذ أراد ريموند الهجوم على حلب والتحرك من أجل تحرير مدينة إديسا من هناك، بينما أصرّ لويس على الذهاب إلى القدس أولاً.
انحازت إليانور لرأي عمها، وهددت بإبطال زواجها من لويس إذا لم يتبع توصيات ريموند. لقد عانا خلال زواجهما من مواقف مماثلة من قبل، ولكن مع كل هذا التوتر المصاحب للحملة الصليبية، وصل زواجهما إلى نقطة الانهيار.
وبدأت الشائعات الخبيثة تحوم حول الملكة؛ إذ اتهمها العديد من المؤرخين كذباً بسفاح المحارم مع عمها، ربما للتستر على استراتيجية الملك الحمقاء.
وفي تحد غير معهود لرغبات إليانور، أجبرها لويس على الذهاب إلى القدس.
نهاية الزواج الأول
أدت سلسلة من القرارات العسكرية الكارثية إلى فشل الحملة الصليبية الثانية، وفي عام 1149، ركب لويس وإليانور السفن العائدة إلى فرنسا مهزومين.
بالنسبة للويس السابع، كانت الحملة الصليبية كارثة من كافة النواحي: فقد ابتعد عن مملكته لمدة عامين، وشارك في حملات عسكرية باهظة التكلفة تعرّض خلالها لهزائم مذلة، وانهار زواجه تماماً.
بعدما عاد الزوجان إلى أوروبا، قابلا البابا إيجين الثالث الذي حاول أن يصلح بينهما، لدرجة تهديدهما بالحرمان الكنسي، ولكن بلا فائدة، فقد كانت إليانور مصرة على الطلاق وبعد أن حصلت عليه عادت إلى آكياتين.
إليانور تخطط لزيادة مساحة أراضيها
عند طلاقها لم تكن الدوقة إليانور قد تجاوزت الثامنة والعشرين من عمرها بعد، وتهافت إليها الخطاب من النبلاء لكنها في ذلك الوقت كانت تخطط للزواج بدوق نورماندي وكونت أنجو، الدوق " هنري بلانتاجانت".
لم يكن خيار إليانور عشوائياً، فقد كان لهنري علاقات قوية بالعرش الإنجليزي، كما اشتهر بقدراته العسكرية العظيمة وهو لا يزال في سن المراهقة.
وبعد أقل من ثلاثة أشهر على طلاقها من لويس، تزوجت إليانور من هنري بلانتاجانت، الذي يصغرها بتسع سنوات، في 1152. وسيطر هنري وإليانور بذلك على نورماندي وأنجو وماين وتورين وآكياتين، وأصبحا منافسين جادين للملك لويس.
الولاء الجديد لملك إنجلترا
لم يعد الزوجان ملزمين بالتبعية للملك الفرنسي، لا سيما وأن لهنري علاقات قوية في البلاط الإنجليزي، وفي خطوة جريئة، أصبحت أراضي نورماندي وآكياتين وأنجو وغيرهم من المقاطعات الفرنسية المهمة تحت سيطرة ملك وملكة إنجلترا.
خلال السنوات الأولى لزواجهما، شكل إليانور وهنري الثاني فريقاً قوياً للإشراف على ممتلكاتهما في فرنسا وإنجلترا، وكانا قد أنجبا سلالة من خمسة أبناء وثلاث بنات.
كان هنري يسافر كثيراً إلى مناطق مختلفة في مملكته، وأثناء غيابه، كانت إليانور تتولى دور وصي العرش وغيره من المهام والواجبات السياسية.
وخلال زواجهما، تمكنت إليانور من أن تصبح راعية الفنون، وأهدى أربعة كتّاب على الأقل أعمالهم لها.
لكن في أواخر ستينيات القرن الثاني عشر، توترت العلاقة بين إليانور وهنري.
كان هنري معروفاً بعلاقاته النسائية، ويتكهن البعض أن خياناته الزوجية أضرّت زواجهما إلى درجة تتجاوز القدرة على الإصلاح.
وفي عام 1173، قاد ثلاثة من أبناء هنري المقاطعات الفرنسية، بإيعاز من إليانور كما يعتقد البعض، وعدد من بارونات الأنغلو نورمان إلى التمرد ضد والدهم هنري الثاني.
وجنَّد هنري، الابن الثاني لهنري الثاني، شقيقيه ريتشارد وجيوفري للتمرد ضد والدهم.
كان ريتشارد الذي سيعرف لاحقاً بـ "قلب الأسد"، المفضَّل لدى إليانور، هو الوريث المعيَّن لمقاطعة آكياتين.
لكن وبنهاية العام، وضع الملك الإنجليزي حداً لهذا الصراع وألقى القبض على إليانور واحتجزها في حصن شاتو دي شينون في فرنسا.
وظلت إليانور سجينة هناك حتى وفاة هنري الثاني عام 1189.
الإقامة الجبرية
كانت السنوات التالية في غاية الصعوبة بالنسبة للملكة، التي عاشت تحت الإقامة الجبرية في عدة مواقع مختلفة في إنجلترا.
وحامت شائعات حول سعي هنري الثاني إلى الطلاق من إليانور، للزواج من أشهر عشيقاته "روزاموند كليفورد" التي توفيت لاحقاً بظروف غامضة.
هناك شائعات تقول إن إليانور تمكنت من اختطاف روزاموند وأجبرتها على قتل نفسها، بعدما خيرتها بين السكين والسجن.
ولكن إليانور كانت سجينة في ذلك الوقت، لذا من غير المرجح أن تكون تلك الشائعات صحيحة.
خلال فترة سجنها، سُمح لإليانور بالسفر في العطلات، وخاصة عيد الميلاد، ورؤية أبنائها.
وخبا تأثيرها على أبنائها بشكل كبير خلال تلك الفترة، ولكن تعطّش ابنها هنري للسلطة لم يخب.
فتمرد هنري على أبيه عام 1183، ولكنه أُصيب لاحقاً بالزحار (الديزنطاريا).
العودة إلى السلطة
بعد وفاة هنري الثاني في يوليو/تموز 1189، أصبح ريتشارد "قلب الأسد" ملكاً على إنجلترا، واستعادت إليانور حريتها كاملة.
أعاد لها ابنها المفضل أراضيها التي صودرت بعد تمرد 1173. وعينها في منصب حكومي، وسافرت إليانور إلى الريف الإنجليزي لتقسم الولاء لابنها ومملكته.
وفي أواخر العقد السابع من عمرها، استمرت إليانور في متابعة وتوجيه الأحداث السياسية من أراضيها.
وأثناء حملة ريتشارد الصليبية في الأراضي المقدسة، كانت إليانور تتمتع بنفوذ على الرجال المسؤولين عن شؤون الحكم في غياب ريتشارد، بما في ذلك شقيقه الأصغر، الأمير جون.
وفي العقد الثامن من عمرها، سعت إليانور لتعزيز الروابط بين عائلة بلانتاجانت والكابيتيون.
وسافرت عام 1200 إلى منطقة البرانس لمرافقة حفيدتها بلانش للزواج من ابن ملك فرنسا إثر جهودها المتواصلة للحفاظ على نفوذ وقوة عائلتها.
توفيت بعد موت جميع أبنائها
عاشت إليانور عمراً أطول من معظم أبنائها؛ بنتيها من الملك لويس السابع، وأبنائها ويليام وهنري وجيوفري وريتشارد، وابنتيها ماتيلدا وجوان، جميعهم ماتوا قبل والدتهم. وبعد وفاة ريتشارد، أصبح جون، أصغر أبناء إليانور ملكاً على إنجلترا.
وتوفيت إليانور عام 1207، بعمر يناهز الثمانين، في دير فونتفرود بمقاطعة أنجو الفرنسية.
صوّرت بعض الروايات إليانور بوصفها الشابة المستهترة أو المرأة اللعوب، ولكن لا شك في أنها كانت بارعة جداً على الساحة السياسية، وجريئة في استغلال نفوذها وسلطتها.
ربما تضررت سمعتها بسبب جرأتها، ولكن لم ينتقص ذلك من تأثيرها البارز على الساحتين السياسية والثقافية خلال القرن الثاني عشر.