يعتبر مهاتما غاندي هو الأب الروحي للهنود، ولقِّب "مهاتما" أي الروح، ورغم أنّه الأب الروحيّ للهند، وأنّه هندوسيّ الديانة إلا أنّه اغتيل على يد رجلٍ هندوسيٍّ مثله، لأنّ قاتله اعتبره خائناً للقومية الهندوسية الهندية لأنّه طالب باحترام حقوق الأقلية المسلمة.
لكنّ العجيب أنّ هذا الرجل الذي يُلقّب أيضاً باسم "بابو" أي "الأبّ"، أصبح مركز انتقاد واتهاماتٍ بالخيانة للقومية الهندوسيّة بسبب مطالبته بحقوق المسلمين. ولا تتوقّف هذه الانتقادات على بعض الأشخاص هنا وهناك، بل هناك أعضاء بارزون في الحزب الحاكم الآن في الهند، وفق المقال الذي نشرته صحيفة New York Times الأمريكية.
تمجيد قاتل مهاتما غاندي
تحت ظل شجرةٍ في الهند، كان مجموعة من المصلين يتلون طقوساً باللغة السنسكريتية. وقد تقدَّم بعض الرجال إلى الأمام وأشعلوا ناراً، ثم بدأوا يمشون نحو تمثالٍ ما وأياديهم متشابكة، وكأنهم في غيبوبة.
بعضهم وضع الزهور حوله، والبعض الآخر غنّى أغنياتٍ عن البطولة. لم يكن هذا تمثال مهاتما غاندي، فقد كان ببساطة تمثال "ناتهورام جودسى" الهندوسيّ المتعصّب الذي اغتال غاندي رمز استقلال الهند ورمز المقاومة السلمية في العالم كله.
يَعتبر الهنود غاندي أحد الآباء الروحيين لأمتهم. لكنّ صعود حكومة هندوسية قومية، بقيادة رئيس الوزراء الحالي ناريندرا مودي، أنتج الكثير من المعتقدات المتطرّفة وجعلها أكثر انفتاحاً، ومنها الإعجاب بقاتل غاندي!
وهي علامة على مدى تَغيُّر الهند في الأعوام الخمسة ونصف الماضية منذ صعد مودي إلى السلطة. "غاندي كان خائناً" بهذه العبارات وصفت بوجا شاكون باندي، المرأة التي شاركت في مراسم عبادة قريبة لقاتل غاندي في سنويته، مضيفةً أنّه "قد استحق أن ينال رصاصة في رأسه".
لا يزال القوميون الهندوس البارزون في الهند يستشهدون بغاندي ومآثره، لكنّهم أيضاً يحاولون في حالاتٍ كثيرة دمج أسطورته المسالمة والمتسامحة مع الأقليات مع سياساتهم الخاصة التي هي بطبيعة الحال هندوسية – قومية ومثيرة للفرقة.
من بين الأمثلة على ذلك، قانون المواطنة الجديد الذي دفعت حكومة مودي لتمريره، والذي يقول عنه النقاد إنه يمارس التمييز ضد المسلمين ويُهدد الدولة العلمانية -التي تقف على مسافة واحدة من الجميع- التي تصورها غاندي.
معابد هندوسية باسم قاتل غاندي!
في اللحظة الحالية هناك قوميون هندوس مستمرون على نحوٍ سافرٍ في الحطِّ علانيةً من الرجل الذي نال احترام العالم كله بصفته رسولاً للسلام والمقاومة السلمية. لم يكن ذلك الاحتفال الذي يمجَّد قاتله أمام تمثاله في مدينة ميروت شمال البلاد، هو الدليل الوحيد على احترام جودسي (قاتله) في الهند تلك الأيام. فقد شيِّدَ في أنحاء البلاد أكثر من عشرة تماثيل لقاتل غاندي، وبدأت عملية تحويل العديد من المعابد الهندوسية إلى معابد لجودسي!
في العام الماضي، اقترحت سلطات إحدى الولايات الهندية تغيير اسم مدينة ميروت إلى جودسي. وكُشف الستار عن أحد أوائل التماثيل لجودسي هناك قبل حوالي 3 سنوات.
أمّا كاتب السيرة الذاتية البارز الذي كتب عن حياة غاندي، راماشاندرا غوها، فإنّه يعتبر أنّ محبِّي قاتل غاندي لم يعودوا مجموعةً هامشية، بل وَجَدَ الإعجاب بجودسي مكانه في قطاعٍ كبير من السكان.
الحوادث التي تؤكد هذا الأمر كثيرة، فخلال الأشهر الماضية شوهت مجموعاتٌ من المخربين صوراً لغاندي، وهاجمت نُصبه التذكارية وكتبت كلمة "خائن" على صورته. كما قُطع رأس تمثال لغاندي في شرق الهند عام 2019.
بدا الاحتشاد المتزايد حول جودسي متأصلاً في مفهوم التعصُّب نفسه الذي عُرفت به القومية الهندوسية، والتي أوحت لقاتل غاندي بأن يُطلق الرصاص عليه في مساء يوم في شهر يناير/كانون الثاني عام 1948.
في ذلك اليوم، سار غاندي ببطءٍ في حديقةٍ فخمة في العاصمة الهندية نيودلهي، متكئاً على كتفي امرأتين شابتين. خرج جودسي من الزحام وحيّاه ولمس قدميه تبجيلاً له، ثم سحب مسدسه وأطلق الرصاص على العجوز الكهل ذي الـ78 عاماً ثلاث مرات على الجزء العلوي من جسده.
من هو قاتل غاندي الذي شبهوه بالمرأة؟
وُلد جودسي في قريةٍ صغيرة في وسط الهند، لعائلة من الطبقة الغنية. وقد مات 3 من إخوته الأكبر منه بمرضٍ مجهول، فعاملته العائلة معاملة الفتاة معتقدةً أنها ستحميه بهذه الطريقة، فثقبت أنفه وجعلته يرتدي حلقاً فيها إلى أن رُزقت بمولودٍ آخر.
وبسبب ارتدائه حلقاً في أنفه، أُطلق على جودسي لقب "ناثورام"، الذي يعني "رجل ذو أنفٍ مثقوب كالنساء".
عندما صار شاباً، انضم جودسي إلى منظمة "آر.إس.إس". القومية، التي التحق بها كثير من أفراد الحزب الحاكم في الهند حينها، ومنهم رئيس الوزراء الحالي نفسه: ناريندرا مودي.
اعتقد جودسي أنّ غاندي خان الهندوس بتصالحه مع المسلمين وبسماحه للباكستانيين بالانفصال خلال تقسيم الهند عام 1947. ولا يزال كثير من الهندوس القوميين -الذين يرون جودسي بطلاً قومياً وغاندي خائناً- يذكرون ذلك الأمر.
وساعد أيضاً توفر الإنترنت الزهيد الثمن على الهواتف النقالة في معظم المناطق الريفية، في خلق بيئةٍ من المعلومات المُضللة يصعب فيها تدقيق الحقائق من الخيال. وتقول رسائل واتساب التي انتشرت على نطاقٍ واسع في المناطق الريفية إنه لولا قتل جودسي لغاندي، لكانت الهند سقطت مثلما سقط الاتحاد السوفييتي تماماً. وتصف رسائل أخرى غاندي بأنه كان "زير نساء".
وتُستخدم اللقاءات الجماعية التي تُمجد قاتل غاندي أيضاً في نشر الأكاذيب وتبرير اغتيال غاندي. يقول جاين الذي يقدّس جودسي وعمره 38 سنة: "ينبغي أن يُحترم غاندي، لكن الهند الجديدة لا ينبغي أن تتسامح مع الحطّ من قدر جودسي أيضاً".
ويحث جاين، إلى جانب بعض أصدقائه القوميين الهندوس، حكومة ولاية أتر برديش على إدراج فصلٍ خاص في الكتب المدرسية عن جودسي. والفكرة هنا هي تقديمه باعتباره صاحب "رؤية" للقومية الهندوسية وأحد مسببات قيام الدولة الهندوسية.
تقوم القومية الهندوسية، وهي أيديولوجية تُحرك مودي وحزبه الحاكم، على فكرة أنّ الهند أمة هندوسية وفقط وأن الأقليات -وخاصة المسلمة منها- ينبغي لها الخضوع للسيادة الهندوسية.
أمّا باندي، التي كانت تزور تمثالاً لجودسي مؤخراً في مدينة ميروت، وهي واحدة من أكثر الشخصيات المتعلِّمة في قريتها في شمال غرب الهند، إذ إنها حاصلة على درجة الدكتوراه في الرياضيات وتُدرس في الجامعة المحلية، وهي أيضاً زعيمة حزب ماهاسابها، الذي تشكل منذ أكثر من 100 عام ويتبنى القومية الهندوسية المتطرفة.
قُبض عليها في العام الماضي، بعد أن أعادت تمثيل مشهد قتل غاندي. وهي تظهر في مقطع فيديو جلب لها شهرة على الصعيد الوطني، تُطلق النار على دمية تُمثل غاندي ويخرج منها دماً مزيفاً!
تدير باندي فرع حزب ماهاسابها في مدينة ميروت، وهي تعقد اجتماعات الصلاة في المعابد ويحضُّون الناس موضحين لهم لماذا الآن -تحت حكم مودي- هو الوقت المناسب لعودة الهند لتكون أمة هندوسية خالصة.
تقول باندي -الدكتورة الجامعيّة- إنّه لو كان جودسي حياً لشربت الماء الذي يغسل به قدميه تبركاً به. مضيفةً: "بطلنا أوقف السمّ الذي كان غاندي ينشره في هذه الأرض الطاهرة.. لو كنتُ قد ولدتُ قبل جودسي لكنتُ أطلقت النار على غاندي بنفسي!".