"ما رواه المغربي" رواية لا أظن إلا أنها قد نقشت سطورها على تلافيف دماغي. وهنا لا أدري أيهما كان أكثر إبداعاً، المؤلفة المغربية ليلى العلمي أم المترجمة نوف الميموني؟ أبدعت المؤلفة في اختيار الحدث التاريخي وطورته إلى رواية حافلة بالتاريخ والجغرافيا وقبلها حافلة بالبشر. أعادت الروائية كتابة التاريخ الحقيقي مخالفة الرواية التي كتبها المنتصر. قرأت مرة لشاكر مصطفى في مجلة العربي أن الأوروبيين إذ نهضوا استعمروا قارة جعلوها لهم سوقاً ومصدراً للمادة الخام (آسيا). واستعبدوا قارة (إفريقيا) واغتصبوا قارة أخرى أبادوا أهلها وسرقوا أرضها (أمريكا).
حررت الكاتبة التاريخ من مداد الكذب الذي كتبه به المنتصرون، هؤلاء ذهبت بهم مطامعهم للذهاب إلى أمريكا، ألقوا خطبة التبشير داعين أهلها إلى اعتناق المسيحية، كانوا يلقون خطبهم في العراء فما كانوا في الحقيقة يرون إلا أنفسهم، كانوا كالصهاينة في فلسطين ينسجون أكاذيبهم عن أرض بلا شعب يستحقها شعب متحضر مكافأة له. وفي طريق الذهب يُقتل من الهنود الحمر من يقتل ويُستعبد مَن يستعبد فهم في عرف الغزاة قوم همجيون حملوا الأرض خطايا وكانوا عبئاً على الدنيا. وفي حرب غير متكافئة بين الرصاصة والنشاب ينتصر الأوروبي، ويستوطن الأرض وإذ منَّ على أصحابها يوماً بإيقاف استعبادهم فإنما كان ذلك ليسخرهم في فلاحة الأرض واجتلاب خيراتها لسادتها الجدد.
حملة نارفاييز مارست كل هذه القسوة لكن مصيرها كان إلى الضياع والتشتت حتى أكل بعض أفرادها بعضاً.
بدأت الحكاية بأكل لحم الميت ثم قتل الحي لأكله، وكان هذا جزاء وفاقاً لاستعمار أقل ما يقال فيه إنه كان تحدياً لقوانين الطبيعة. نجا من الـ350 أربعة منهم الراوي المغربي الذي باع نفسه للبرتغاليين على ساحل المغرب مقابل خمسة عشر ريالاً تأخذها أمه وأخواه، جاءا مع سيدة في حملة نارفاييز وكان وسيده من الأربعة الذين نجوا وأجبرهم الذل على أن يتواضعوا للهنود وأن يخدموهم. ولكن الهنود بما طُبعوا عليه من طيبة أحبوهم واستفادوا من بعض معلوماتهم في العلاج والتداوي. وترحلوا بقيادة العبد الإفريقي الذي قاد المجموعة بخلقه وبتعلمه لغات الهنود وببراعته في التطبيب وقبل ذلك بنظرته غير الفوقية لأهل البلاد وحبه لهم. وهكذا يُدعون ليطوفوا بين قبائل الهنود يبذلون العلاج ويأخذون الهدايا الكثيرة التي نقلتهم إلى مصاف الغنى. وفي ترحالهم يتزوجون من بنات الهنود ويتبعهم الكثير من أهلها فهم أبناء الشمس بل أبناء الإله. وهكذا حتى ينتهي بهم المطاف إلى المستوطنين من بني جلدتهم فيعود الأوروبي المتحضر إلى توحشه، ويعود الإفريقي عبداً والهنود الذين تبعوه مسترقين مساجين مضطهدين، ويكتب تاريخ الحملة الثلاثة الأوروبيون بينما يساوم المستوطنون سيد العبد المغربي على شرائه لكفاءته في معرفة البلاد. ويتزوج الأوروبيون من بنات قشتالة بنات جلدتهم في تجلّ لعدم الوفاء لزوجاتهم الهنديات، ويكتبون تاريخ الحملة على هواهم، فالأخطاء يتحملها الموتى والهنود هم المتوحشون الذين لا يستحقون الحياة، إلا في مزارع المستوطنين حيث السُّخرة.
إنها رحلة الإنسان في عالم الشقاء الذي قاده إليه الأوروبيون وهي قصة كل يوم نعيشها في فلسطين وفي العراق وغيرهما.
ذكرتني الكاتبة بأجواء مئة عام من العزلة الغرائبية الساحرة في وصفها للشمس والظل والبيوت والصحاري وكل مظاهر الحياة.
أما المترجمة التي ترجمتها على أساليب الرحالة العرب، أي على أسلوب المغربي ابن بطوطة فقد أبدعت إيما إبداع، وأظن أنه سيكفيني أن أري اسم نوف الميموني المترجمة لأجزم للكتاب بالجودة.
كتاب صعب ساحر مؤلم، حملته لغته المتمكنة إلى غاية الإبداع.
صالح الشحري هو طبيب فلسطيني مهتم بالشأن الثقافي وقضايا المجتمع وسبق أن نشر مقالات عديدة في موقع huffpost النسخة العربية.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.