عند البحث عن دوافع النظام الإيراني لبسط نفوذه بمنطقة الشرق الأوسط ورغبته في استعادة أمجاد الماضي، يغمز المحللون عادةً لاستدعاء النظام الإيراني إرث الدولة الصفوية التي مثَّلت قوةً لا يُستهان بها بين عامي 1501 و1736.
إلا أن ما يجهله البعض، هو أن لإيران تاريخاً إمبراطورياً كبيراً يعود لآلاف السنين قبل الميلاد، نجح ببعض مراحله في مناكفة أعتى القوى العالمية؛ مثل الإغريق والدولة الرومانية، حتى إنهم هزموا أهمَّ 3 قادة رومانيين، وأسروا إمبراطوراً رومانياً ظل أسيراً لديهم حتى وفاته.
في هذه السلسلة نقدِّم لكم صورةً عامة عن تاريخ إيران، بدايةً من الدولة الأخمينيّة والسلوقيِّين والبارثيِّين وصولاً إلى الدولة الساسانيَّة الكبيرة وسقوطها على يد المسلمين، وحتى الدولة الصفوية الشيعية والقاجاريِّين، وصولاً إلى الخميني والنظام الإيراني الحالي.كما سنعرِّج على أهم الشخصيات في هذا التاريخ الإيراني، مثل قورش الثاني، وابنه قمبيز الثاني، وأبو مسلم الخراساني، والشاه إسماعيل الصفوي.
تاريخ إيران القديم
بلاد فارس هي واحدة من أقدم المناطق المأهولة بالسكّان في العالم، فقد أكّدت المواقع الأثرية وجود السكان البشر في تاريخٍ يعود إلى 100 ألف عام خلال العصر الحجري القديم، مع مستوطناتٍ شبه دائمة تأسّست قبل عام 10000 قبل الميلاد. كانت مملكة عيلام القديمة واحدةً من أكثر ممالك عصرها تقدّماً، قبل أن يحتل السومريون أجزاءً منها، ثم يسيطر عليها الآشوريون بالكامل، ومن بعدهم الميديُّون.
في أعقاب الإمبراطورية الميدية التي استمرت من 678 – 550 ق.م، ظهرت واحدةٌ من أعظم الكيانات السياسية والاجتماعية في العالم القديم: الإمبراطورية الأخمينية الفارسية، التي استمرت من عام 550 وحتى عام 330 ق.م، وهي الإمبراطورية نفسها التي احتلّها الإسكندر الأكبر في نهايتها.
حلّت محلها الإمبراطورية السلوقية، من عام 312 وحتى عام 63 ق.م، وأتبعتها مملكة بارثيا من عام 247 ق.م وحتى عام 224 ميلادي، ثم الإمبراطورية الساسانية الكبيرة من عام 224 وحتى عام 651م التي تعتبر أعظم إمبراطورية فارسية ومن أعظم الإمبراطوريات في التاريخ.
وكانت الإمبراطورية الساسانية هي آخر الحكومات الفارسية التي سيطرت على المنطقة، قبل الفتح العربي الإسلامي في القرن السابع الميلادي، والذي غيّر فارس تماماً، وفقاً لما ذكره موقع Ancient History Encyclopedia البريطاني.
من تارخ إيران.. حضارة امتدّت آلاف السنين
بدأ تطوّر الإنسان في منطقة فارس منذ العصر الحجري القديم، وصولاً إلى العصر الحجري الحديث، وانتهاءً بالعصر النحاسي. إذ أُنشِئت مدينة سوسة (أو شوشان المعاصرة)، التي ستصير لاحقاً جزءاً من مملكة عيلام ثم فارس، في عام 4395 ق.م.
ويُعتقد أنّ القبائل الآرية التي هاجرت إلى المنطقة في تاريخٍ يسبق الألفية الثالثة قبل الميلاد، إذ سيُشار إلى البلاد لاحقاً بوصفها "أريانا" أو "إيران" نسبةً إلى أرض الآريين. لكنّ معنى "الآري" حسب اللغة الإيرانية القديمة تعني "نبيل" أو "مُتحضِّر" أو "رجل حر"، وتوصيفها لطبقةٍ من الناس لا علاقة لها بالعرق الآري على الإطلاق.
كانت تلك القبائل تتألّف من شعوبٍ متنوعة، وجلبت معها ديناً متعدِّد الآلهة يرتبط بفكرٍ خاص بالهندو-آريين، وهم شعوبٌ استوطنت شمالي الهند، ويتّصف بثنائية العقل والجسد وتبجيل النار باعتبارها تمثيلاً للإله.
كانت تلك الديانة الإيرانية المبكّرة تعتبر الإله "أهورامزدا" الكائن الأعلى بين آلهةٍ أخرى مثل ميثرا، وهفار خساتا، وأناهيتا، وبقيّة الآلهة.
وفي وقتٍ ما بين عامي 1500 و1000 قبل الميلاد، قال زرادشت الفارسي إنّه تلقّى "الوحي الإلهيّ" من أهورامزدا، وأدرك من خلاله أنّ غرض الحياة الإنسانية هو اختيار جانبٍ في الصراع الأبدي بين الإله الأعلى للعدل والنظام وبين عدوه (أهريمان) إله الفتنة والصراع. شكّلت تعاليم زرادشت أساس الديانة الزرادشتية المجوسية، التي ستتبنّاها الإمبراطوريات الفارسية اللاحقة وتنقل ثقافتها.
أُنشِئت دولة الفرس بحلول الألفيّة الأولى قبل الميلاد. وقد توسّعوا في ضمّ أراضي المملكة الميديّة حتى وصلوا إلى المنطقة التي صارت تُعرَفُ بأذربيجان حالياً.
كانت المملكة العيلاميّة قد ثبّتت أقدامها بالفعل في تلك المنطقة خلال ذلك العصر، وكانوا هم السكان الأصليين على الأرجح. في حين استقر الفُرس تحت راية تيسبس بن أخمينيس (675 – 640 ق.م) في شرق عيلام على الأراضي المعروفة باسم بارس (أو فارس المعاصرة)، مما منح القبيلة الاسم الذي باتت تُعرف به لاحقاً.
امتدت لاحقاً سيطرتهم في المنطقة إلى الأراضي العيلامية، وتزوّجوا من العيلاميين، واستوعبوا ثقافتهم. وقبل عام 640 ق.م، قسّم تيسبس مملكته بين نجليه قورش الأول وأريارامنس.. وفي عصر الملك قمبيز الأول (580 – 559 ق.م)، توحّدت هاتان المملكتان.
وكان الميديون يمثّلون قوةً مُهيمنة في المنطقة، في حين كانت مملكة الفرس دولةً صغيرةً تابعة. لكنّ هذا الحال انقلب تماماً إثر سقوط الإمبراطورية الآشورية عام 612 ق.م. إذ احتفظ الميديون بالسيطرة أول الأمر، حتى أطاح بهم نجل قمبيز الأول الفارسي: قورش الثاني، أو قورش الكبير الذي أسّس الإمبراطورية الأخمينية، ويعتبر أعظم ملوك الفرس قاطبةً.
الإمبراطورية الكبرى والصراع مع أوروبا
أطاح قورش الثاني الميديين عام 550 ق.م، وبدأ حملةً مُمنهجة لإخضاع الإمارات الأخرى لحُكمه، فغزا المملكة الليدية (الجزء الآسيوي من تركيا الحالية) الثريّة عام 546 ق.م، ثمّ مملكة عيلام عام 540، ثم بابل عام 539.
وبنهاية فترة حكمه، كان قورش الثاني قد أسّس إمبراطوريةً تمتد من المنطقة التي تحمل تكوّن سوريا وتركيا في العصر الحديث، وصولاً إلى حدود الهند. وهذه هي الإمبراطورية الأخمينية الكُبرى، التي تحمل اسم أخمينيس، جدّ قورش الثاني.
يُعَدُّ قورش الثاني مُميّزاً بين الغزاة القدامى بسبب رؤيته وسياساته الإنسانية، إلى جانب تشجيعه للابتكارات التقنية؛ إذ كانت كثيرٌ من الأراضي التي غزاها تُعاني نقص إمدادات المياه الكافية، لذا أمر مهندسيه بإعادة إحياء الوسائل القديمة للوصول إلى طبقات المياه الجوفية الموجودة تحت الأرض، والتي تُعرف باسم قناة الري.
ونعرف جهود قورش الإنسانية بفضل أسطوانة قورش، وهي عبارةٌ عن سجلٍّ بسياساته وإعلانٍ لرؤيته بأنّ كل مَن يعيشون تحت حكمه يجب أن يكونوا أحراراً في العيش كما يشاؤون، طالما يفعلون ذلك بوفاقٍ سلميّ مع الآخرين.
ولم يطلب قورش الثاني من مواطنيه سوى أن يعيشوا جميعاً في سلامٍ مع بعضهم البعض، ويخدموا في جيوشه، ويدفعوا ضرائبهم. ومن أجل الحفاظ على بيئةٍ مستقرة، أسّس تسلسلاً هرمياً حكومياً يكون هو على قمته، مُحاطاً بمستشاريه الذين ينقلون أوامره الملكية إلى وزرائه، الذين يُمرّرونها بعد ذلك إلى الحكّام الإقليميين في كل مقاطعة.
كانت سلطة كل حاكمٍ تقتصر على المسائل الإدارية البيروقراطية فقط، في حين يُوجد قائدٌ عسكري في كل منطقة للإشراف على المسائل العسكرية والشُّرَطِيَّة. وبتقسيم مسؤوليات الحكومة في كل مقاطعة؛ خفّف قورش الثاني إمكانية تكديس أيّ مسؤولٍ للأموال والسلطة الكافية من أجل محاولة الانقلاب.
أسّس قورش مدينةً جديدة لتكون عاصمته سمّاها باسارغاد، لكنّه كان يتنقّل بين ثلاث مدن أخرى تُمثّل مراكز إدارية: بابل وإكباتان وسوسة. وكان الطريق الملكيّ يربط تلك المدن، ومدناً أخرى غيرها، حتى يظل الملك مطّلعاً دائماً على شؤون الدولة.
مات قورش عام 530 قبل الميلاد، في معركةٍ على الأرجح، وخلفه ابنه قمبيز الثاني (530 – 522 ق.م) الذي وصل بحكم الفرس إلى مصر. يأتي بعد ذلك الملك داريوش الأول (ينطق أيضاً دارا وداريوس)، الذي يُعرف باسم داريوش الكبير. وانطلق داريوش الكبير لتوسيع الإمبراطورية إلى ما هو أبعد من ذلك، واستهلّ عدداً من أشهر مشاريعه في البناء، مثل مدينة تخت جمشيد (برسبوليس) التي صارت واحدةً من عواصم الإمبراطورية.
رغم أنّ داريوش الأول واصل سياسة قورش الثاني، في التسامح والتشريعات الإنسانية، لكنّ الاضطرابات اندلعت خلال فترة حكمه. كانت المستعمرات اليونانية في آسيا الصغرى (الأناضول) من بين أهم المتمردين، الذين كانت أثينا تدعم جهودهم لإضعاف الفُرس، لذا شرع داريوش في غزو اليونان حتى أوقفته معركة ماراثون عام 490 ق.م.
بعد موت داريوش الأول، أعقبه نجله خشايارشا الأول الذي يُقال إنّه حشد أكبر جيشٍ في التاريخ الإنسانيّ حتى انتهى به المطاف إلى غزوته الفاشلة لليونان عام 480 ق.م، فقد أراد أن يضمّ عدوته الأوروبيّة اللدودة لحكمه، وبعدما فشل انشغل خشايارشا الأول ببناء المشاريع، وأضاف الكثير إلى مدينة برسبوليس، وفعل خلفه الأمر نفسه.
ظلّت الإمبراطورية الأخمينية مستقرةً في عهد الحكام اللاحقين، حتّى غزاها الإسكندر الأكبر خلال عهد داريوش الثالث. وقُتِلَ داريوش الثالث على يد كاتم سره وحارسه الشخصي بيسوس، الذي أعلن نفسه ملكاً للبلاد تحت اسم أردشير الخامس، لكن الإسكندر أعدمه بعد وقتٍ قصير، ليُعلِن نفسه خليفةً لداريوش، ويُشار إليه عادة بآخر ملوك الإمبراطورية الأخمينية!
كانت هزيمة الفرس أمام الإسكندر الأكبر خسارة فادحة، ومثّلت هذه الخسارة الهزيمة الأقسى للفرس أمام خصمهم اللدود في أوروبا، فقد أنهى الدولة الأخمينيّة التي أسسها قورش.
ما بعد الغزو الأوروبي.. الإمبراطوريتان: السلوقية والبارثيّة
بعد موت الإسكندر عام 323 ق.م، تقسّمت إمبراطوريته بين قادته العسكريين الكبار. كان من بينهم سلوقس الأول (305 – 281 ق.م)، الذي سيطر على آسيا الوسطى، ووسّع أراضيه ليُؤسّس الإمبراطورية السلوقية، ويفرض الثقافة واللغة اليونانية عليها.
أبقى سلوقس الأول على نموذج الحكومة الفارسي والتسامح الديني، لكنّه ملأ المناصب الإدارية العليا بالإغريق. ورغم تزاوج الإغريق والفرس، فإن الإمبراطورية السلوقية فضّلت الإغريق دائماً، وصارت اليونانية هي لغة المحاكم الرسمية.
ورغم أنّ خلفه اتبّعوا ممارساته نفسها في إخماد التمردات والحفاظ على السياسات الإدارية الفارسية، فإن المقاطعات ثارت عليهم، وانفصلت بعضها مثل بارثيا وباختريا. وفي عام 247 أسّس أرساكيس الأول من بارثيا مملكةً مستقلة ستصير الإمبراطورية البارثية لاحقاً.
عمل أنطيوخوس الثالث، آخر الحكام السلوقيين الفعّالين، على إعادة غزو وتوسيع الإمبراطورية السلوقية. لكنّ روما هزمته في معركة ماغنيزيا عام 190، وأسفرت معاهدة أفاميا عن خسائر كبيرة له، إذ قلّصت مساحة إمبراطوريته إلى أقل من النصف.
واصلت بارثيا نموها بالتزامن مع انحسار مساحة الإمبراطورية السلوقية. وفي النهاية انحسر السلوقيون داخل مملكةٍ عاجزةٍ صغيرة، عقب هزيمتهم على يد الجنرال الإغريقي بومبيوس الكبير، وبحلول عام 63، كانت الإمبراطورية البارثية في أوجها.
كان الجيش البارثي هو القوة المقاتلة الأكثر فاعلية في زمانه. وكان تكتيك الحرب البارثي شديد الفاعلية؛ إذ هزم البارثيون بقيادة أورودس الثاني واحداً من حكّام روما الثلاثة وهو كراسوس في معركة كارهاي عام 53ق.م، وقتلوه، ثم هزموا مارك أنطوني عام 36 أيضاً، ليُصيبوا قوة ومعنويات الجيش الروماني بضربتين شديدتين.
الإمبراطورية الساسانية.. أعظم دول الفرس على الإطلاق
رغم ذلك، كانت قوة روما في ازديادٍ بفضل إمبراطوريةٍ قوية أسّسها أغسطس (27 – 14 ق.م)، وبحلول عام 165م، كانت الإمبراطورية البارثية قد ضعفت بشدة نتيجة الغزوات الرومانية المتلاحقة.
وأُطيح بآخر ملوك بارثيا أرطابنوس الرابع على يد تابعه أردشير الأول، الذي يُعَدّ من نسل داريوش الثالث وعضواً في العائلة الملكية الفارسية الأخمينية السابقة. وقامت هذه الإمبراطورية على الديانة الزرادشتية المجوسية أيضاً.
جعل أرطابنوس ابنه شابور الأول حاكماً مشتركاً معه عام 240م. وحين مات أردشير الأول بعد عامٍ واحد، صار شابور الأول "ملك الملوك – شاهنشاه"، وأطلق سلسلةً من الحملات العسكرية لتوسيع أراضيه وحماية حدوده.
كان شابور إدارياً مقتدراً، يُدير إمبراطوريته بفاعليةٍ من العاصمة في طيسفون (في العراق حالياً) التي كانت عاصمة الإمبراطورية البارثية سابقاً، وأمر بإتمام العديد من مشروعات البناء. وفي رؤيته الزرادشتية، كان هو والساسانيون بمثابة قوى النور التي تخدم الإله العظيم أهورامزدا، ضد قوى الظلام والفوضى المُتجسّدة في روما.
كانت حملات شابور الأول ضد روما ناجحةً جداً، لدرجة أنّه أسر الإمبراطور الروماني فاليريان (253 – 260م) وجعله خادماً شخصياً ومسنداً لقدميه حتّى وفاته.
أرسى شابور الأول دعائم الإمبراطورية الساسانية، ليبني عليها خلفه كسرى الأول (531 – 579م) وهو أعظمهم؛ إذ أصلح كسرى الأول قوانين الضرائب لتكون أكثر إنصافاً، وقسّم الإمبراطورية إلى أربعة أقسام يقع كل منها تحت حماية جنرالٍ خاص من أجل سرعة الرد على التهديدات الداخلية والخارجية، وأمّن حدوده بصرامة، وزاد أهمية التعليم.
واصل كسرى الأول سياسات التسامح الديني، والإدماج، وكراهية الفرس للعبودية منذ قديم الأزل. وكان أسرى الحرب في الإمبراطورية الرومانية يتحوّلون إلى عبيد، لكنّ الأسرى في الإمبراطورية الساسانية يصيرون خدماً مدفوعي الأجر. وكان من الممنوع قانوناً ضرب أو إيذاء الخدم، بغض النظر عن المكانة الاجتماعية، لذا فإنّ حياة "العبيد" في الإمبراطورية الساسانية كانت تفوق حياة العبيد في أيّ مكانٍ آخر.
وتُعتبر الإمبراطورية الساسانية بمثابة ذروة الحكم والثقافة الفارسية في العصور القديمة، لأنّها استفادت من أفضل جوانب الإمبراطورية الأخمينية وطوّرتها. ولم تتراجع الإمبراطورية الساسانية، بعكس غيرها، بل ظلّت بكامل قوتها حتى غزاها العرب المسلمون في القرن السابع الميلادي.
هزمهم عُمر بن الخطّاب.. فأصبحوا جزءاً من الحضارة الإسلاميّة
بعدما تلاحقت الهزائم على الفرس، رغب عمر بن الخطّاب في أن يقود جيوش المسلمين بنفسه في معركةٍ حاسمة، لكنّ مستشاريه طلبوا منه أن يرسل قائداً محنّكاً ويظل هو في المدينة، وقد كان، فقد قاد سعد بن أبي وقاص أهم معارك المسلمين ضد الفرس، حتّى سقطت عاصمتهم المدائن وقتل أخر أكاسرتهم.
وقد تركت الابتكارات التقنية والمعمارية والدينية الفارسية أثرها على ثقافة العرب وأيضاً على المنتج الحضاري والعلمي في الإسلام، فقد كان الكثيرون من علماء المسلمين من الفُرس أو من أصل فارسي، حتّى إنّ أشهر عالم نحوي في تاريخ الإسلام كان فارسيّاً: سيبويه، وأشهر محدّث أيضاً: البخاري.
احتفظ الفُرس بما يمكن أن نسمّيه وحدتهم "العرقيّة" داخل إطار الإسلام، فقد حولوا لغتهم للحرف العربيّ من ناحية، لكنّهم ظلوا يتحدثون اللغة الفارسية، وإن كان إنتاجهم العلمي في الصدر الأوّل للإسلام عربياً بالكليّة.
على المستوى السياسي، اندمج الفرس في الإسلام، ليس فقط لأنّ الدولة الإسلاميّة قد استنبطت القواعد الإدارية الفارسية واستخدمتها في الدولة الإسلاميّة الناشئة، ولكن لأنّ العديد من سليلي الممالك الفارسية (المجوسيّة) أصبحوا ساسةً مؤثّرين في الدولة الإسلامية، حتّى إنّ بعضهم كان يمثّلُ قلقاً دائماً لخليفة المسلمين.
دولة إسلامية قامت على أكتاف "الفُرس"
تاريخيّاً كان أغلب إن لم يكن كلّ قادة الدولة الأمويّة من العرب، بل إنّها خضعت أحياناً للصراع العربي – العربي القائم بين القبائل قبل الإسلام. وما إن قرّر العباسيون أن ينقضُّوا على الأمويين، حتّى كانت دعوتهم لخلافة بني العبّاس تتحرّك خلف الظلال، وبعيداً عن عاصمة الخلافة الأموية في دمشق، كانت خراسان هي أهم مركز للدعوة العباسيّة في ذلك الوقت.
ومن خراسان بدأت أولى بشائر الوجود الفارسي في السياسة الإسلاميّة، فقد برز في الدعوة العباسية – التي استمرت قرابة 30 عاماً قبل إعلانها – شابٌّ فارسيّ، استهواهُ كثيراً تاريخُ الفرس وإمبراطورياتهم المتلاحقة قبل الإسلام، وأصبح ناراً على علم، وأهم قائد عسكري لدى العباسيين: أبو مسلم الخراساني.
يُعتبر أبو مسلم الخراساني أحد أعمدة نشأة الدولة العباسيّة، فمن خراسان استطاع أن ينطلق بحملاته العسكرية الذكية على معاقل الأمويين، ومع استتباب الأمر للدولة العباسيّة، كان أبو جعفر المنصور، الخليفة العباسي الثاني بين شقيّ رُحى، فقد رفض عمّه بيعته، ورفض أبو مسلم الخراسانيّ كذلك.
تخلّص أبو جعفر المنصور من كليهما بالحيلة حيناً وبالبطش حيناً حتّى قضى عليهما، ولم يستطِع التخلص من الخراساني إلا بالقتل غدراً، لما كان له من قوّةٍ وغلبةٍ في مدينته "خراسان". ويمكننا أن نقول إنّ الخلافة استتبّت لأبي جعفر المنصور فقط بعد تخلُّصه من أبي مسلم.
لكنّ قصّة الفُرس في بلاط الدولة الإسلاميّة كان قد بدأ لتوّه، فقد قتل الخراسانيّ عام 137 هـ/ 756م لكنّ الخطّ الذي بدأه كان قد أخذ في التوسُّع والانتشار، فما هي إلّا سنواتٌ قليلة حتى كان الساسةُ الفُرس من كبار الساسة في الدولة العباسيّة المترامية الأطراف.
ليس هذا فحسب بل إنّ بعض كبار رجال الدولة ذوي الأصل الفارسي كانوا من نسل الساسانيين أو من نسل كهنةٍ مجوسيّين، كالبرامكة الذين كانت لهم اليدُ الطولى داخل الدولة العباسيّة أيّام هارون الرّشيد.
وقد كانت الهدية الكُبرى للعرق الفارسي داخل الدولة الإسلاميّة بوفاة هارون الرشيد، فقد قسّم الرشيد دولته بين ابنيه: للأمين القرشيّ الخلافة، وللمأمون، وأمّه جارية فارسيّة، خراسان وبعض المناطق الفارسية الأخرى، وبعد وفاته دبّ الخلاف بين الأخوين، وقامت الحرب أربع سنوات، كانت الغلبةُ فيها للمأمون في النهاية الذي كان أحد وزرائه الكبار فضل بن سهل السرخسيّ الفارسيّ الذي يقال إنّه سليل الساسانيين.
ومع خلافة المأمون تصاعدت قوّة وحضور الفرس في بلاط الدولة العبّاسيّة، وصار الصراع داخل الدولة بين الفُرس والعرب، وما إن توفِّي المأمون حتّى آلت الخلافة لأخية المعتصم بالله الذي كانت أمّه جاريةً تركيّة، ومن هنا بدأ الجُند الأتراك يدخلون الدولة العباسيّة ليوازنوا الصراع بين الفُرس والعرب، وما هي إلّا فترة قصيرة بعد وفاة المعتصم بالله حتّى صار الصراع داخل الدولة العباسية فارسي – تركي.
من الدولة العباسيّة للدولة الفارسية الأهمّ في تاريخ الإسلام
دخلت منطقة "فارس" في محاولاتٍ عديدة لإنشاء دولةٍ داخل الخلافة العباسية التي تدهورت حالتها، وبالفعل قامت بعض دويلاتٍ صغيرةٍ فارسيّة، لكنّ الدولة الأهمّ والأكبر هي الدولة التي تأسّست على ثنائيّة المذهب الشيعي الصفوي، والعرق الفارسي، ممثلاً في الشاه إسماعيل الصفوي، الذي أسس دولته عام 1501م.
كانت إيران في ذلك الوقت على المذهب الشافعيّ السنيّ، لكنّ الشاه إسماعيل قرّر فرض المذهب الشيعيّ بالقوّة، وكان سيفه على رقاب الممتنعين، وعندما ثار الناس في تبريز عاصمة دولته يوم غيَّر المذهب من الشافعي للشيعي الإثنى عشري، ثار الناس فأخمد الجُند ثورتهم.
تمثّل الصراع حينها في كونه صراعاً سنيّاً – شيعيّاً، فقد دخل الشاه إسماعيل الصفوي بغداد بالقوّة، وقتل الكثير من أهل السنّة، وفرض مذهبه الشيعيّ بالقوّة، وبدأ في التوسُّع على حساب أراضي الدولة العثمانيّة التي تتخذ المذهب الحنفي مذهباً رسمياً، ومن هنا كانت المعركة الحاسمة للشاه إسماعيل مع سليم الأوّل العثماني في سهل جالديران عام 1514، حين هزمه ودخل عاصمته تبريز.
استمرّ الصفويُّون رغم ذلك قرنين من الزمان، وانتهت دولتهم رسمياً عام 1736م، وكانوا إحدى القوى التي تخشاها الدولة العثمانية دائماً، فهي عدوها اللدود الذي سينقضُّ عليها ما إن تسنح له الفرصة.
بعد الصفويُّون جاءت الدولة الأفشارية التي لم تستمرّ أكثر من 60 عاماً، ثمّ جاء القاجاريُّون، الذين ينحدرون من القبائل القزلباشيّة التي كانت نواة الجيش الصفوي في بدايات تأسيس الدولة الصفويّة، كانت الدولة حينها من أضعف الدولة، وتقسّمت إلى منطقتي نفوذ بشكل رسمي: منطقة للنفوذ الروسي والأخرى للبريطاني.
كان البريطانييون والروس يتحكّمون في البرلمان والحكومة والجيش أيضاً، حتّى انتهى هذا عندما قام رضا بهلوي بانقلابٍ على آخر شاه قاجاري، وأصبح هو الشاه بدلاً عنه مؤسِّساً الأسرة البهلويّة التي انتهت على يد ابنه محمد رضا بهلوي بقيام وانتصار الثورة الخمينيّة عام 1979.
وها هي"الجمهورية الإسلامية الإيرانية" تقع في نفس المنطقة الجغرافيّة لفارس القديمة، متدخّلةً في شؤون الدول العربيّة، في العراق ولبنان واليمن وسوريا. الجدير بالذكر أيضاً أنّ آخر شاه قبل انتصار الثورة عليه بعامٍ واحد كان يحتفل بذكرى مرور 2500 عام على الدولة الساسانيّة الكبيرة، متّخذاً لقب "الشاهنشاه" أي ملك الملوك، معتبراً نفسه امتداداً لهذه الحضارة البعيدة، غير عالمٍ بأنّ التاريخ لا يرحم أحداً!