"الرحلة لفكري" للكاتب فكري الخولي عمل روائي فريد، كُتب في المعتقل عام 1962، وكما يصفه كاتب مقدمته صلاح حافظ، فإنه يعتبر من الأدب المباشر، فالشكل شكل روائي ولكنه في الحقيقة يشكل السيرة الذاتية لمؤلفه، وهو عمل يصور حياة الفلاحين والعمال في مصر في ثلاثينيات وأربعينيات القرن الماضي.
كاتبه فلاح أصبح عاملاً في معامل نسيج المحلة، التي كانت أبرز الإنجازات الصناعية لرأس المال الوطني في مصر، والتي اقترنت باسم أبرز اقتصادي مصري في أوانه. طلعت حرب أسَّس أول بنك في العالم العربي "بنك مصر"، وقد استثمر بنك مصر في مشروعات صناعية كثيرة، وكذلك في مشروعات أخرى أبرزها في السينما، ولكن هل كان رأس المال الوطني أكثر إخلاصاً للشعب من رأس المال الأجنبي؟
يكثر اليوم الحديث عن رأس المال الطفيلي، وهو الذي يمتلكه مغامرون، جاؤوا من أجل الربح السريع حتى لو كان ذلك على حساب مصلحة الوطن، وكثر هؤلاء في قطاع الخدمات، وسرعان ما تحول أرباح رأس المال الطفيلي إلى العالم الغربي فتكون نزفاً من دماء الوطن.
لا شك أن رأس المال الوطني قد أسس لمشروعات بقي أثرها وكسب منها الوطن؟ لكن هل كان رأس المال الوطني ذا قيم لا تسمح بإهدار كرامة العمال، بل هل كان رأس المال الوطني منصفاً في تعامله مع العمال؟
تقدم الرواية بأجزائها الثلاثة وثيقة إدانة لرأس المال الوطني، فالعمال عنده لم يكونوا أكثر من أرقام، وكم ابتلعت المكائن عمالاً حولت أجسادهم إلى أشلاء، فما توقف العمل ليسأل الرأسمالي وزبانيته كيف نحمي عاملاً آخر من نفس المصير، ولا كيف نخبر أهله، ولا كيف نعوض أهله وأبناءه عائلهم الذي ابتلعته الآلة؟ ليس هذا فقط، العمال يعملون اثنتي عشرة ساعة في اليوم، ستة أيام في الأسبوع، لا تفتح لهم دورة المياه إلا نصف ساعة خلال الوردية، القروش القليلة التي يتقاضونها بعد الخصومات التعسفية لا تسد رمق العامل ولا أهله، حتى إذا وقع مريضاً بالسل بسبب التلوث وسوء التغذية تُرك للموت البطيء، ولأسرة مستشفى يحتله العفن، بل وينتقل من سيطرة لا ترحم لرئيس في العمل إلى سيطرة ممرضين يلاحقونه بالابتزاز وهو على شفير قبره.
وبين بؤس وبؤس يأخذ العمال في البحث عن حقوقهم، ويتمنون أن يهبط عليهم قائد من فوق يأخذهم إلى العدالة، ولكنهم يفشلون، فالنبيل عباس حليم الذي تجري في عروقه الدماء الملكية ينكص عن وعوده لهم بمساعدتهم في إنشاء نقابات للعمل، يجدون أنه لا أحد سيساعدهم إلا أنفسهم، والحكومة التي يلجأون إليها لم تكن أرحم بهم من أصحاب العمل ومديريه، لا فرق بين الحكومات الشعبية التي قاتل الشعب المصري من أجلها أو حكومات الأقلية التي صنعها الاستعمار الإنجليزي.
إن الأحزاب في النهاية حتى ولو عبرت عن المنافسة من أجل أبناء الوطن إلا أنها تظل تُعلي الولاء للقوى التي تمثلها على الولاء للمواطن، والقوى التي تقيم الأحزاب كلها تتلخص في أصحاب رؤوس الأموال، حزب الوفد لم يكن أكثر إنصافاً للعمال من غيره، بل إن رئيسيه سعد والنحاس سخرا قوى الحكومة وسطوتها للدفاع عن الإقطاعيين وأصحاب رؤوس الأموال ضد العمال المساكين. والغريب أن الحكومة تقوم في بعض الأحيان بوضع قوانين تنصف العمال، ولكنها كما خلقت القوانين تعرف كيف تتحايل عليها لتصبح غير ذات قيمة، إنه مظهر آخر من مظاهر توحش رأس المال وتدميره لإنسانية البشر.
عندما ناء الناس بديكتاتورية الحكم الجمهوري في مصر وطال عهدهم بالحكم الملكي، أخذ البعض يتغنى بحريات عصر ما قبل الثورة والرأسمالية الوطنية التي أنشأت اقتصاداً مزدهراً، وذلك وهْم تبدده هذه الوثيقة الروائية كما بددته كتب أخرى، إن الأصل هو احترام إنسانية الإنسان وحقوقه العادلة، وحق كل البشر في العدالة والحياة الكريمة.
الرحلة رواية محزنة، لكنها تترك في النفس أملاً، الأمل هو أن الناس لا يستسلمون للظلم إلى الأبد، وأن الاستعداد للمقاومة موجود وقدرة الناس على التضحية تضعف أحياناً، لكنها تنبعث بقوة بُعدها، الرواية سيرة ذاتية كتبها عامل فلاح عن حياته، ولذا فهي تُلغي من الأذهان الصوره الرومانسية المتوهمة (ما أحلاها عيشة الفلاح، مطمن باله مرتاح)، أغنية عبدالوهاب الشهيرة، التي يظهر فيها بثيابه الأنيقة التي صنعت من دماء وعرق عمال مصانع نسيج المحلة، الذين لم يأخذوا مقابلها إلا مزيداً من الفقر والمسغبة.
لغة الرواية جميلة، كتب الحوار فيها بالعامية المصرية المفهومة المعبّرة، وخارج الحوار كتبت بالعربية السهلة الخصبة بالمعاني وبالحلاوة. وقد استطاع كاتبها إبراز التناقضات الإنسانية بسلاسة فائقة.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.