حتى تكتب رواية واقعية يكفي أن تسرد حكاية يمكن أن تحدث في الواقع، ولكنك لو سجلت الواقع كأنك تصف صورة ضوئية أو تكتب تقريراً صحفياً، فإن هذا لا يجعلها رواية فضلاً عن أنه لن يكفل لها النجاح. إن إضفاء شيء من الخيال لا يطعن بواقعية الأحداث ولكنه يجعل تذوقها عند المتلقين مستحباً إن لم يكن ممتعاً حتى لو أثار فيك الحزن، إن رواية المولودة ليست إلا سرد سيرة شخصية لصاحبتها، ورغم ذلك فلها مذاق الرواية الحريف والممتع والمحزن أحياناً والمثير للشجن أحايين، وأظن أنه يصعب الحديث عن الرواية من غير تلخيص أحداثها، تلك الأحداث التي تجعل الحياة أفضل الروائيين. وذلك حين تقود المتناقضات وتذيب أطرافها -من غير إضرار بجوهرها- حتى تلتحم مع نظيراتها لتخرج لنا سيرة حافلة بالإنسانية، وحين تنظر للأحداث بأثر رجعي، أي بعد أن تذهب حرقتها، تكتشف كيف كونت خلطة بديعة مثيرة للتأمل قادرة على الاحتفاظ دائماً بأعلى قدر من التعاطف يمكن أن يقدمه قارئ ذو قلب لشخصيات عاش معها، وربما اختلف معها وربما أثارت يوماً ما حنقه لكنها اليوم تثير لوعته وتهز قلبه.
- مصر كانت وما زالت درة الشرق، وفي لحظات انتعاشها الاقتصادي والسياسي كانت تجتذب الكثيرين من مواطني السلطنة العثمانية، وبعض مواطني الدول الأوروبية القريبة، بعضهم مغامرون باحثون عن النجاح وبعضهم هارب من ضيق الحياة يبحث عن سعتها في مصر، ولدت ماري إيلي روزنتال لأب يهودي قدمت عائلة أبيه من أوديسا -إحدى أملاك الدولة العثمانية- إلى إستانبول وهناك تزوج ابنها الأكبر من سارة المهاجرة عائلتها من الأندلس، وجاءت العائلة إلى مصر بحثاً عن الرزق فسكنت درب البربر حيث حارة اليهود قرب الموسكي في القاهرة، وهي حارة تضم في الأغلب اليهود الفقراء، ومن مظاهر فقرهم أن أحد أبنائهم عمل بائع طعمية على عربة في الحارة وكان كل أفراد عائلته يساعدونه، ابن العائلة الثاني كان عامل كهرباء التقى بفتاته الإيطالية في حديقة الأزبكية وتزوجا، عارض الحاخام إلا إذا تهودت الفتاة المسيحية فتهودت، ولكن بعد الزواج بعشر سنين ذهب الاثنان إلى الكنيسة ليصبح الأب مسيحياً مثل زوجته وذلك حين اكتشفا أن اليهودية ديانة مغلقة لا يمكن أن يدخلها أحد ولو أراد. ثم ينتقلان للعيش خارج حارة اليهود في بولاق أبو العلا، وهو حي فقير آخر من أحياء القاهرة، وإن لم يمنع الفقر من أن تتوفر للعائلة بعض أناقة الحياة وخاصة الطعام، ابنتهما ماري تحولت دون علمهما من اليهودية المسيحية للإسلام عند زواجها، وإن كانت على كل الأحوال لا تعرف عن الديانتين شيئاً وإن راقتها بعض المناسباتالاحتفالية في الكنيسة. لم تكن الجنسية المصرية أو الإيطالية مشكلة فالأبوان لا يحتاجان لأي جنسية، ولكن عند ذهاب الأم لتسجل ابنتها في المدرسة الطليانية قيل لها إن ابنتها تحمل وثيقة ولادة مصرية ولا يمكن قبولها في المدرسة الطليانية، لكن إصرار الأم وطلاقة البنت في الطليانية تجاوزت هذه العقبة الروتينية.
في سن السادسة عشرة انضمت ماري إلى ناد للشباب الطلاينة قادها إلى أن تصبح شيوعية، والشيوعي الحقيقي آنذاك يرى في التعليم تطلعاً برجوازياً لا يليق بنشطاء الحزب فتركت المدرسة إلى أعمال السكرتارية وتدريس اللغات الإيطالية والفرنسية. والتقت سعد كامل الذي أصبح زوجها بعد سجنهما الأول. سجنت ماري مع مجموعة من الشيوعيات في أخريات عصر الملك فاروق وقضت سنة مليئة بالطرافة رغم آلام السجن، وخلال سجنها تعرفت على شيوعيات، وفهمت أن هناك تنظيمات شيوعية متصارعة أحياناً متوافقة أحياناً فهي في حدتو، و أخريات في إسكرا، وهناك من يعمل مع م.ش.م، وكانت كما تقول عن كل الشيوعيين في مصر أنهم ضد إنشاء دولة لليهود في فلسطين، وتعرفت في السجن على فلسطينيات من ضحايا النكبة وإحداهن أصبحت ناشطة شيوعية بعد لجوئها إلى مصر، والغريب أن الفلسطينية اللاجئة كانت مهددة بالإبعاد عن مصر مثلها مثل يهوديات شيوعيات أخريات.
خرجت ماري من السجن لتعاود العلاقة مع سعد كامل ويتزوجا دون اعتراض من عائلتيهما اللتين تحولتا إلى عائلات متصادقة فضلاً عن المصاهرة، لم يتمكن العروسان من تأثيث شقة الزوجية فعاشا في منزل عائلة سعد وبقيا هناك طوال عمرهما.. بعد زواجهما أدخلا السجن للمرة الثانية وقضى كل منهما خمس سنوات، وكانت ماري ممن كتبن إلى عبدالناصر راغبات في الانضمام للجيش المصري خلال حرب ١٩٥٦م، قضية الحرب مع إسرائيل عند الشيوعية ماري -التي أصبحت نائلة بعد إسلامها- كانت أمراً مشروعاً لمصر ضد وطن أقيم ظلماً على حساب الفلسطينيين، لم يراود نائلة شك في ذلك لا اليوم ولا بالأمس.
سعد كامل زوج نائلة كان رجلاً مختلفاً، فقد كان مبدعاً في العمل وكان مخلصاً في استخراج ما عند الآخرين من مواهب وقدرات، ولكنه لم يكن حاذقاً في إبراز نفسه أو العمل لها مثل كثير من زملائه، فقد بقي ممنوعاً من الكتابة الصحفية طيلة عصر السادات ومعظم عصر عبدالناصر، في عصر عبدالناصر تم اختياره من قبل ثروت عكاشة لينشئ الثقافة الشعبية فقام بإنشاء قصور الثقافة التي غطت القطر لتكون مسرحاً وسينما ومكتبة، كما وأنه حاول إبراز مكنونات الريف والصحراء من مواهب وإبداعات وفنون شعبية، لكنه أُبعد بعد عامين من ابتداء العمل، ورغم أن الشيوعيين تصالحوا مع نظام ناصر على أن يتاح لهم العمل في أجهزة الدولة بشرط أن يلغوا تنظيماتهم واستفادوا من ذلك كثيراً، إلا أن سعداً ظل ضمن غير المرضي عنهم وربما لأنه لم يكن مع إلغاء التنظيمات الشيوعية فوشى به أحدهم، وقد لاحقه ذلك الموقف حتى منع أن يأخذ موقعه في منبر اليسار أيام السادات وكذلك أبعده رفعت السعيد عن أي وضع داخل حزب التجمع اليساري أو جريدته الأهالي، وظل الرجل على تمنعه لدرجة أنه حين دُعي للقاء مبارك بتدبير من بعض زملائه لم يتقدم بأي طلب لنفسه.
- وسعد كامل زوج نائلة ينحدر من أسرة مصرية الأب فيما يبدو تعود جذوره للصعيد والأم من عائلة نصف مصرية ونصف روسية فقد ألجأت أسرة من أبخازيا ابنتين لها إلى عائلة صديقة في مصر هرباً من الحرب، وتزاوجتا مع أبناء مضيفهما المصري فكان من نسلهما أم سعد وخاله السياسي والأديب المصري فتحي رضوان.
أصبحت حياة عائلة المولودة صعبة في مصر صعبة إذ فشلوا في الحصول على الجنسية المصرية مما دفعها لتهاجر إلى بلد الأم إيطاليا وذلك في أواخر الستينيات بعد إنجاب ماري لابنتيها، بعد عودة أهلها إلى إيطاليا بدأت نائلة تكتشف أن معظم أبناء أعمامها قد هاجروا إلى إسرائيل، تقول إن نشاطها السياسي لم يتح لها وقتاً للتفكير في افتقاد بعض من كان لها بهم علاقة. بقيت ماري تكتب في مجلة حواء بابا عن نساء أوروبا وعملهن للحصول على حقوقهن الضائعة وساهمت في إنشاء جمعية الكاتبات المصريات. وظلت على موقفها المعادي لإسرائيل ومن المعارضات للسلام المصري الإسرائيلي.
- ورثت بنتا نائلة مواقفها السياسية. وخلال نشاط البنتين في إحدى الفعاليات الجماهيرية المقامة ضد الصهيونية -رغم المنع الحكومي- تتعرف نادية مؤلفة الكتاب على رندا شعث ابنة نبيل شعث السياسي الفلسطيني، وهذه العلاقة تؤدي إلى زواج الابنة الصغرى لسعد كامل من علي شعث، وهنا يتجه جزء من الحديث ليخاطب به نبيل الحفيد الذي ترمز به الكاتبة إلى العلاقة بين الشعبين المصري والفلسطيني، وتجد رسالة من الجدة إلى حفيدها توضح له موقفها من عائلتها اليهودية ومن دولة إسرائيل متمنية ألا تتغير مشاعره نحو جدته التي ما كانت وأهلها إلا مصريين، وما تحادثت مع اثنين من أقرب أبناء عمومتها إلى قلبها بعد هجرتهم إلى فلسطين إلا بعد أن زارت غزة بفضل صهرها الفلسطيني.
الرواية هي سيرة اجتماعية آسرة بالعامية المصرية، يلعب المكان فيها دوراً مهماً، فعناوين المساكن تربط القارئ ممن اعتاد على مصر بذكريات المكان، ولعب بيت العائلة في شارع سليمان جوهر دوراً في وحدة المكان فهو بيت الجد كامل الذي عاش فيه ابنه سعد وزوجته نائلة، وولدت فيه البنتان نادية ودينا، ويقضي فيه نبيل جزءاً من طفولته التي يعيد فيها الحيوية إلى العائلة. المكان الواحد يعني الوطن الواحد الذي يأخذ جميع أبناء الوطن تحت ظلاله. أغفلت الذكريات الحديث عن وفاة سعد كامل معتبرة ربما أن هذه النهاية الطبيعية للأشياء في أسرة تعيش مستسلمة لقدرها كما كان سعد، كما وقفزت الكاتبة على حياة البنتين ربما لكي تصل بسرعة إلى المستقبل حيث الطفل نبيل الذي جمع في جيناته كل هذه التناقضات البشرية في كيان جميل، ليكون معادلاً موضوعياً لصورة الوطن القادر على خلط عناصره البشرية لينتج مزيجاً أجمل بتأليف المتناقضات من كل من أبنائه منفردين.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.