قد تكون صورتنا النمطية عن جزيرة صقلية أنها منشأ المافيا الإيطالية الرهيبة، لكنك ستفاجأ، بالطبع، إذا عرفت أن اللغة الصقلية القديمة تأثرت باللغة العربية، فقد كانوا يستخدمون للتدليل على "القرض" كلمة Sulfa، التي تعني بالعربية: سُلفة: أي قرض، وإذا تعمقت أكثر فستجد كلمة Fidenum التي تعني بالعربية: فدان: وهو الحقل، كما يطلقون على حوض المياه كلمة Fiskia التي هي بالعربية: فسقية: أي حوض المياه، فهل تعرف أن الإسلام في صقلية امتد وتمدد طيلة ثلاثة قرون!
في القرن الرابع الهجري -التاسع الميلادي- كتب لنا الرحالة المسلم الشهير "ابن حوقل" عن زيارته لجزيرة صقلية، ووصف لنا الأحوال الاجتماعية والسياسية والعمرانية فيها، وركز كثيراً على مدينة باليرمو، عاصمة صقلية. وقد لاحظ فيها كثرة المساجد بشدة، فقد كان عدد المساجد في هذه العاصمة يزيد على ثلاثمائة مسجد!
لكن الزمان دار، وكتب لنا الرحالة الأندلسي المسلم ابن جبير عن قصةٍ مأساوية للمسلمين هناك، بعد نحو قرنين ونصف القرن من الزمان، ملكوا فيها الجزيرة المهمة في غرب البحر المتوسط. فقد كانت آخر أيام المسلمين فيها مؤلمة، كأنها كانت أندلساً صغيراً. فقد منع الحكام المسيحيون الأصوات وحوَلوا المساجد إلى كنائس، كما نصّروا المسلمين لاحقاً بالقوة.
لكن القصة المؤلمة التي حكاها ابن جبير، كانت عن هذا الرجل المسلم من جزيرة صقلية، الذي عُرض عليه وعلى رفاقه أن يأخذوا ابنته الصغيرة بعيداً عن الجزيرة، ليعتنوا بها ويزوجوها من يرونه صالحاً من المسلمين في الأندلس؛ خوفاً على ابنته ورفقاً بأن تنال من الكأس نفسها التي يتجرعها المسلمون هناك.
وفي هذا الموضوع من موقع Muslim Heritage البريطاني، سنعرف أكثر عن هذه الجزيرة التي ربما كانت ستظل تحت حكم المسلمين في أوروبا.
الإسلام في صقلية.. بدأ الأمر مع الأمويين
تقع جزيرة صقلية بجنوب إيطاليا، ولها أهمية استراتيجية كبيرة، لذلك كانت مدار صراعات عديدة في القرون الوسطى، جعلت القوى الكبرى بالبحر المتوسط تتنافس عليها في حروبٍ عديدة. وبدأ الصراع الإسلامي على هذه الجزيرة في عهد الخليفة الأموي معاوية بن أبي سفيان، وقد كانت أولى الحملات البحرية على صقلية عام 44 هـ-664 م، وغنم منها المسلمون غنائم ضخمة، لكنهم لم يسيطروا على الجزيرة، وقد تبعت هذه الحملةَ عدة حملاتٌ بَحرية كان هدفها السيطرة على الجزيرة المهمة في البحر المتوسط.
كانت صقلية وغيرها من الجزر في ذلك الوقت تحت سيطرة الإمبراطورية البيزنطية وعاصمتها القسطنطينية (إسطنبول حالياً). وفي عام 827م، قاد الملك زيادة الله الأول حملة ناجحة أمَّنت له موطئ قدم على الجزيرة فترة طويلة. وهو حاكم دولة الأغالبة بإقليم إفريقية شبه المستقل، والذي كان يتألف من الجزائر، وتونس وإقليم طرابلس.
وبعد هذه السيطرة بأربع سنوات على صقلية، تحركت القوات الإسلامية بـ10 آلاف رجل إلى فتح عاصمتها الجميلة باليرمو، كان ذلك عام 831، ثم فُتحت ميسينا عام 843، وبقية المدن واحدة تلو الأخرى، لتصبح الجزيرة بالكامل تحت سيطرةٍ إسلامية فعلية، وتحديداً تحت سيطرة دولة الأغالبة بتونس، والتابعة بدورها للخلافة العباسية في بغداد.
كانت الجزيرة في ذلك الوقت تعبِّرُ بشكل رائع وجميل عن الطابع الإسلامي، والإيمان والحضارة في ذلك الوقت. وكانت الجزيرة المهمة تجمع كثيراً من العرب، والأمازيغ، والإسبان والسودانيين وأعراق وأديان أخرى.
التنوع العرقي والديني والتعايش في جزيرة صقلية
هكذا كانت الجزيرة تحت الحكم الإسلامي، مثالاً للتنوع العرقي والديني بين سكانها خلال الفترة التي امتدت إلى 250 عاماً. وأقر الراهب ثيودوسيوس، الذي أحضره المطران صفرونيوس من سيراكيوز عام 883، بعظمة العاصمة الجديدة، باليرمو، وقال واصفاً إياها:
"مليئة بالمواطنين والغرباء، وتبدو أنها تجمع المسلمين من الشرق إلى الغرب ومن الشمال إلى الجنوب؛ هناك العرب والأمازيغ والفرس والتتار والزنوج، إلى جانب الصقليين، واليونانيين، واللومبارديين، واليهود. هناك من يرتدي رداء طويلاً وعمامة، والبعض يرتدي الجلود، والبعض نصف عراة. الوجوه بيضاوية، ومربعة أو دائرية. اللحى والشعر بمختلف الألوان والطبائع".
كان غالبية السكان محتفظين بدينهم المسيحي، وتماشوا كذلك مع التعاليم الإسلامية، فأصبحوا في وضع الأقليات المحمية (أهل الذمة)؛ أي إنه في مقابل دفع ضريبةٍ مالية (الجزية) والتزام قواعدٍ معينة، يضمن الحاكم المسلم سلامتهم وممتلكاتهم، وحرية اتباع قوانين دينهم والحفاظ على مؤسساتهم الدينية. وقد حصلت الأقلية اليهودية الصغيرة في الجزيرة، والتي تتركز بشكل رئيسي في المدن الساحلية، على الحقوق نفسها.
وقد رصد لنا المؤرِّخ والرحالة ابن حوقل التأثير الثقافي الإسلامي على الجزيرة في عامي 972، و973. ووصف أرباع باليرمو، بقصورها ومئات المساجد، قائلاً:
"يتجاوز عدد المساجد في المدينة والأرباع خارج جدرانها 300 مسجد". ويخبرنا بأنه لم يرَ قطُّ عدداً مماثلاً من المساجد حتى في مدنٍ بضعف مساحة باليرمو. هذه المباني كانت أكثر من كونها أماكن للعبادة، فقد كان كلٌّ منها مدرسة لها ناظرها الخاص.
كان هناك أيضاً جامعة باليرمو، التي على الرغم من صعوبة منافستها أو مقارنتها بجامعة قرطبة الأضخم، كان لها نصيبٌ من العلماء العظام، مثل ابن حمديس، السرقوسي النبيل الذي غادر محكمة الكونت روجر في باليرمو إلى إسبانيا الإسلامية، حيث كتب مذكراته عن شبابه في الجزيرة. وكانت مدارس صقلية المسلمة، مثل مدارس إسبانيا المسلمة، قُبلةُ كلِ طالبٍ يطمح في التحصيل العلمي والتميز من جميع أنحاء أوروبا.
أما الرحالة الأندلسي ابن جبير، المولود في بلنسية، فيرسم لنا معالم هذا النبوغ الثقافي في باليرمو قائلاً:
"إنها عاصمة الجُزر، تجمع بين مزايا الثروةِ والفخامة، لديها كل ما تتمناه من جَمالٍ حقيقيٍّ أو ظاهري، وجميع احتياجات المعيشة، ناضجةٌ وطازجة. إنها مدينةٌ قديمةٌ وأنيقة، رائعةٌ ومهيبة، تسرُّ الناظرين. تقعُ في مكانةٍ نادرةٍ بين المساحات المفتوحة المليئة بالحدائق والشوارع والطرقات الفسيحة، تبهر العيون بكمالها. إنها مكان رائع، مصمَّم على طراز قرطبة، باستخدام الحجر الجيري الناعم. هناك نهرٌ يقسم المدينة، وأربعة ينابيع تتدفَق في ضواحيها. يتجول الملك في حدائقها وساحاتها، ليحظى بالبهجةٍ والسرور. النساء المسيحيات في تلك المدينة يتبعن أسلوب النساء المسلمات، يتحدثن بطلاقةٍ، ويرتدين العباءات، ومحجبات".
وعلى الرغم من شهرة مصانع الغزل والنسيج في باليرمو تحت حكم المسلمين، واستمرارها تحت حكم النورمان لاحقاً، فإنه لم يتبقَّ منها إلا القليل بخلاف الشعارات الملكية للملك روجر الثاني، والمحفوظة في خزانة الإمبراطورية الرومانية المقدسة في فيينا.
التأثير الإسلامي في ثقافة والغة صقلية
ويظهر الأصل الإسلامي في عديد من الصناعات والحِرَف واضحاً وبعديد من الأسماء المستخدمة حتى يومنا هذا، لا سيما تسمية المطحنة باسمها العربي: المعصرة.
كما أثر الوجود الإسلامي في الزراعة بشكلٍ كبير، فقد أدخل المسلمون أساليب ومحاصيل جديدة سمحت بازدهار الاقتصاد المحلي، وبعض تلك المنتجات، مثل الفواكه الحمضية تحديداً، تمثل أحد أساسات الاقتصاد الصقلي حتى الآن. ومجدداً، كان التأثير الإسلامي واضحاً من خلال عديد من المصطلحات.
ويؤكد فقه اللغة، كما تشير الأبحاث، الأصل العربي للمصطلحات الصقلية المتعلقة بالري، وقد عُثر على أبحاث تتناول تحليلاً دقيقاً يتعلق بقصب السكر والبستنة في محفوظات كاتب العدل الصقلي في الفترة بين القرنين الرابع عشر والخامس عشر، تُظهر التشابه بين المصطلحات العربية والصقلية؛ مثل: catusu (القادوس: الوعاء الخزفي)؛ وChaya (طاية: السياج أو جدار الحديقة)؛ وFidenum (فدان: حقل قصب السكر)؛ وFiskia (فسقية: حوض المياه)؛ وMargum (المرج: الحوض المغمور)؛ وNoharia (نوارية: حديقة منزلية مروية)؛ وSulfa (سُلفة: قرض للمزارعين)؛ وغيرها من المصطلحات.
تزامنت فترة حكم المسلمين في صقلية مع المراحل المبكرة للنهضة التجارية بالعصور الوسطى، وكانت فترة ازدهارٍ اقتصاديٍ هائل للجزيرة. وقد كانت -إلى جانب تونس- مركز النشاط التجاري المتوسع في منطقة البحر المتوسط، وكانا يمثلان تقاطعاً لعديد من الطرق التجارية الرئيسية.
كانت القوافل تأتي من سجلماسة في جنوب المغرب، تحمل البضائع الإفريقية والمغربية، عبر تونس، لتجد طريقها إلى أسواق باليرمو ومازر. وكانت صقلية وسيطاً تجارياً بين إسبانيا المسلمة والشرق الإسلامي، وكانت السفن التي تسافر بين الوجهتين عبر البحر المتوسط تتوقف بانتظام في موانئها.
وبالنسبة للتجار الأوروبيين (خاصةً الإيطاليين) الذين يبحثون عن البضائع الشرقية (الكتان، والسكر، والأنسجة المصرية، والفلفل والتوابل والأعشاب الطبية وغيرها)، كانت أسواق باليرمو ومازر (فضلاً عن تلك المدن الساحلية التونسية) أقرب إليهم وأسهل في الوصول من المدن الواقعة شرق البحر المتوسط. ومنذ أواخر القرن العاشر على الأقل، كانت صقلية منتجاً رئيسياً للحرير الخام والمنسوج، وكان يُتداول بكثافة في المعاملات التجارية عبر البحر المتوسط. وكانت عملتها الذهبية، الروبية، أو ربع الدينار، تحظى بتقدير وطلب كبيرَين بمصر والمدن التجارية في سوريا وفلسطين.
النهاية المأساوية للإسلام في صقلية
كعادة الدول الكبرى والإمبراطوريات، تمر بدورتها الطبيعية وتسقط. صحيح أن الخلافة العباسية لم تسقط بسهولة، لكن عديداً من الدول التابعة لها كانت قد سقطت، فسقط حكم الأغالبة في تونس، واستولى العبيديون الفاطميون على أقاليمهم في إفريقيا، ومن ضمن الأقاليم التي دانت للفاطميين بالقوة جزيرة صقلية.
تقلبت صقلية مع الولاة الفاطميين، الذين كانوا في الأغلب قساةً غلاظ القلوب على أهلها، حتى جاء الكلبيون الذين حكموا الجزيرة تحت اللواء الفاطمي، ولكن بالتوارث في عائلتهم قرابةَ قرنٍ من الزمان، دخلت بعدها الجزيرة في دواماتٍ من العنف والفوضى والحرب الأهلية بين الحكام المسلمين أنفسهم.
ومع تزعزع الحكم في تونس نفسها -التي كانت صاحبة النفوذ الحقيقي في الجزيرة باعتبار قربها منها- بدأت جحافل البيزنطيين تقترب من الجزيرة المهمة استراتيجياً، وقد كانت الضربة القاضية عندما استنجد أحد القادة المسلمين بالنورمان المسيحيين، فاستغلوا الفرصة وانقضُّوا على الجزيرة، ودخلوها بسهولة عام 444هـ-1053م، لتضيع سيطرة المسلمين على الجزيرة إلى الأبد، ويبدأ لاحقاً ترحيلهم واضطهادهم الديني في الجزيرة، التي عمَّروها طيلة ثلاثة قرون.