في تقديري أن سيد قطب ربما كان سيغضب إذا قال له أحد ما إنك يمكنكك أن تتعلم وتستفيد من كارل ماركس وكتاباته، أو ربما خالف هذه التوقعات وقابل هذا الاقتراح بابتسامة صغيرة وصدر رحب، باعتبار أنه بالفعل قد كتب أيضاً في مواضيع شبيهة بمواضيع كارل ماركس، عندما تحدَّث عن "العدالة الاجتماعية في الإسلام"، لكنه سيعتبر ما كتبه عن العدالة الاجتماعية أفضل من كتابات ماركس، على الأقل لأن كتاباته متأثره بالإسلام وتشريعاته. لكن سيد قطب لو تقبل هذا الاقتراح فتوقعي أن تلامذته "القطبيين" لن يتقبلوا تلك العبارة بأي قدر من الارتياح، بل سيعتبرها البعض إهانة، إما لأنه لا يوجد ما يستحق أن يتعلمه سيد قطب من ماركس، وهؤلاء -في تقديري- قله قليلة من أتباع قطب المتعصبين له، أو لأن ما يستحق أن يُقرأ من ماركس قد قرأه أتباع سيد قطب بالفعل، وبالتالي فإنه لا حاجة لقراءته مجدداً. وإلى القسم الثاني من القطبيّين أهدى هذا المقال.
قبل هذا ربما يجب أن نسأل السؤال الأول، هل يوجد ما يجمع بين سيد قطب وكارل ماركس، بحيث تكون هناك ضرورة لاطّلاع أحدهما على الآخر؟ فكارل ماركس نشأ في سياق أوروبي خالص، وفي القرن التاسع عشر الميلادي. في الأصل كان يهودياً، مواقفه الأيديولوجية كانت ضد الأديان بوجه عام، التي كان يرى أنها تستخدم من قبل الطبقات الحاكمة من أجل ضمان سيطرتها.
أما سيد قطب، فرغم أنه زار الولايات المتحدة، إلا أن سياقه الأساسي كان مصر والعالم العربي والإسلامي بشكل عام. عاش بعد قرن من كارل ماركس في منتصف القرن العشرين. تحوّل في منتصف حياته ليصبح أحد أعضاء جماعة الإخوان المسلمين، وواحداً من أهم المنظّرين الفكريين، ليس فقط للإخوان المسلمين، ولكن لطيفٍ واسع من التنظيمات الإسلامية. وهو -على عكس كارل ماركس- يرى ضرورة وجود الدين في المجال العام، ليس فقط وجوده، ولكن الوجود الفعال والمؤثر، بل وربما المهيمن، فأي وجه للشبه بينهما؟
الحقيقة أن وجه الشبه الرئيسي بينهما أن كلاً منهما مثلت أفكاره محاولات فكرية نقدية وجادة، من أجل إيضاح المشاكل التي يعاني منها العالم، خاصة مع ظهور الحداثة وصعود الرأسمالية. وفي الوقت نفسه فإن كلاً منهما عمل على تقديم البديل لهذا النظام، ولم يقف دوره عند التنظير والنقد فقط، لكن تحول إلى الحركة والعمل من أجل ذلك.
لقد كان كارل ماركس هو رد فعل نقدياً وغاضباً ضد ما قامت به الرأسمالية في المجتمعات الغربية. فلم يكتفِ فقط بتوضيح عيوب هذا النظام، لكنه عمل في نفس الوقت على الحركة والتفاعل معها من أجل تغييرها، وصاغ من أجل ذلك عدداً من التنظيرات الفكرية المهمة، التي تعمل خارج السياقات الموجودة وقتها وضدها أيضاً.
أما سيد قطب فقد مثّل ردَّ الفعل الغاضب ضد الأفكار الحداثية التي سادت العالم الإسلامي بعد الحرب العالمية الثانية، والتي رأى فيها إفساداً لروح الإنسان وطبيعته. سيد قطب لم يكتفِ فقط بالنقد القاسي والعنيف لهذه الأفكار من حيث المبدأ، أو من حيث مخالفتها لطبيعة النظام الإسلامي، لكنه عمل أيضاً على صياغة أفكار جديدة خارج الأيديولوجيات والأنظمة المعرفية التي كانت سائدة في هذا الوقت. أيضاً لم تكن أفكاره مجرد تنظير فكري، لكنها كانت دعوة للعمل والحركة، وللمواجهه والتغيير إذا اقتضت الضرورة.
إن كلاً من كارل ماركس وسيد قطب كان صرخة احتجاج قوية ضد الآثار السلبية للحداثة والتحديث على الأفراد، سواء في أوروبا القرن التاسع عشر أو في العالم الإسلامي في القرن العشرين. والأهم من ذلك، أن كلاً منهما قدّم خطاباً متحدياً ومقاوماً للخطاب العالمي المهين، الذي يقوم على فكرة أنه لا بديل، وعلى الجميع أن يقبل بالأمر الواقع، فليس في الإمكان أحسن مما كان!.
كلاهما تحدى هذا الخطاب -تنظيراً وعملاً- من أجل أن يُدخل للنقاش العام خطابات جديدة برؤية مغايرة للأفكار والخطابات السائدة. لذلك كان كل منهما صوت احتجاج، كما كان حركة عمل تبحث عن بديل جديد. كان من نتيجة ذلك أن تحوّلت الماركسية والتيارات اليسارية بدرجاتها المختلفة، بالإضافة إلى التيارات الإسلامية بدرجاتها المختلفة خلال القرن العشرين إلى حركات مقاومة ضد الآثار السلبية للحداثة، وضد الاستعمار وأساليبه واستراتيجياته، وضد الكولونيالية بتجلّياتها المختلفة. ولكن ذلك تم بأن كلاً منهما قام بهذا الدور، ولكن بشكل مستقل تماماً عن الآخر.
دعا باحثون يساريون لقراءة كتابات التيارات الإسلاموية باعتبارها "مصدراً قوياً للاشتباك النقدي في صراعنا ضد المحاولات الأمريكية لفرض نظام عالمي جديد غير ديمقراطي، وفي صراعنا ضد العنف الاقتصادي والبيئي للنيوليبرالية"، كما كتبت سوزان باك موريس في مقالتها الشهيرة عن النظرية النقدية والإسلاموية.
لكننا إذا تعاملنا مع كتابات سيد قطب على أنها اجتهاد بشري ضمن سياق التراث الإسلامي، ومع كتابات كارل ماركس على أنها اجتهاد بشري ضمن السياق الأوروبي الحديث، فتوقعي أنه لو قام القطبيون (أتباع فكر سيد قطب) بقراءة الماركسيين (أتباع ماركس والتنظير اليساري عموماً) فإن المنتج الفكري سوف يكون شيئأً جديداً، متماسكاً نظرياً وممتداً مجتمعياً.
منتج فكري جديد لن يجمع بين الخطاب العقدي الهوياتي لسيد القطب مع الخطاب الأيديولوجي المادي لماركس، ولكنه سيتجاوز الاثنين لينتج خطاباً أكثر فهماً لطبيعة الصراع، وأكثر قدرة على تقديم أطروحات وحلول حقيقية له. في الحقيقة، لا أظن محاولة الجمع بين الخطابين (على طريقة اليسار الإسلامي أو الماركسية الإسلامية) سوف تنتج شيئاً مفيداً، لكن البناء على التراث الفكري للتياريين هو الذي لدية إمكانية بناء شيء جديد.
لن يكون هذا الجديد فكراً ليبرالياً بالتأكيد، لا أظن هذا ممكناً أصلاً، ولا شيئاً مرغوباً فيه، ولكني لا أدري أيضاً إذا كان هذا المنتج الجديد هو بالضرورة ضد الليبرالية، لكن في كل الأحوال ليست الليبرالية هي المسطرة التي نحدد من خلالها صواب الفكر أو خطأه.
الليبرالية ذاتها لا تبشر بأنها تقدم الإجابات أو الحلول النموذجية، لذلك لا ينبغي أن نحاكم المنتجات الجديدة على "إجابات نموذجية" هي غير موجودة أصلاً، لكن لحظة عالمية تبدو فيها الديمقراطية الليبرالية في أزمة مع صعود ترامب والشعبوية في العالم الغربي، والرأسمالية في أزمة نتيجة تتابع الأزمات الاقتصادية العالمية كل عقد وبسبب ارتفاع اللامساواه بين الشعوب بشكل غير مسبوق، هي أفضل لحظة لظهور تنظيرات فكرية جديدة، تقدم إجابات مختلفة للمشاكل الحالية.
الربيع العربي أظهر فشل التيارات الإسلامية في تقديم الجديد أو البديل، والأزمات الاقتصادية العالمية وصعود الشعبوية والتيارات القومية أظهرا فشل اليسار في التجاوب مع التحديات الحالية. أما أزمة الليبرالية فهي محور عمل مراكز الأبحاث والتفكير الغربي حالياً.
وربما لو قرأ سيد قطب لكارل ماركس، فإن النتيجة ستكون أفكاراً جديدة أكثر إنسانية وأكثر عدلاً، تُصلح ماكينات الاقتصاد، وتَعدل في أمور السياسة، وتُعيد النقاشات الأخلاقية إلى المجال العام.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.