يقول النبي صلى الله عليه وسلَّم: (الماهر بالقرآن مع السفرة الكرام البررة…)، ولكننا لم نكن نعلم أن تكريم الماهر بالقران في الدنيا قد يضاهي ذلك التكريم الأخروي.
كذلك كان تكريم الشيخ محمود خليل الحصري في دنيانا.
مولده ونشأته وحفظه للقرآن
وُلد الشيخ محمود خليل الحصري في غرّة ذي الحجة من عام خمسة وثلاثين وثلاثمائة وألف من الهجرة، الموافق السابع عشر من سبتمبر (أيلول) في عام سبعة عشر وتسعمائة وألف ميلادياً، بقرية شبرا النملة، مركز طنطا، محافظة الغربية.
يُحكي أن والد الشيخ الحصري رحمه الله رأى في منامه كأنما يخرج من ظهره عنقود من العنب يطعم منه الناس، وكلما ذاق أحدهم منه واحدة قال مادحاً ومعجباً: "الله!"
فقصَّ على شيخ القرية رؤياه، فأخبره أن الله سيجعل من ذريته من ينتفع الناس بعلمه، ونصحه أن إذا رزقه الله بولدٍ أن يُحفّظه القرآن أول شيء.
كانت نشأته في القرية، وفي كتاتيبها، واهتمّ والده به محفزاً له على حفظ القرآن الكريم مبكراً، تلك الكتاتيب تلقفته من عامه الرابع، فبدأ فيها أول آية من كتاب الله حتى أتمّه ببلوغه العاشرة.
رحلته مع الأزهر
كأنما سخر الله له تلك الكتاتيب لتُنشئ منه قارئاً فذّاً منذ صغره، فقد انتهى من حفظ القرآن قبل بلوغه السن المسموح بها للالتحاق بالأزهر، وهو الثانية عشرة، فأنفق عامين في تجويده وإحكام تلاوته، ليفتح له المعهد الأزهري بطنطا أبوابه على مصاريعها، فينهل الحصري من نهر علم الأزهر، ثم يتخصص في علوم القرآن، فيتعلم القراءات السبع، ثم العشر ويجوّدها.
ثم في عام خمسين وتسعمائة وألف يُعين الشيخ الحصري قارئاً للمسجد الأحمدي بطنطا، وعُين شيخاً للمقارئ المصرية، وبعد خمس سنوات ينتقل إلى مسجد الحسين بالقاهرة.
عام فارق في تاريخ تلاوة القرآن في العالم الإسلامي
في عام ألفٍ وتسعمائة وستين، ظهرت في مصر والعالم الإسلامي مصاحف محرَّفة، فرأت الحكومة المصرية أن يكون هناك نموذج صوتي لتلاوة القرآن يُسهّل على الجميع الخروج من هذا المأزق، ويكون مَرجعاً لضبط أي خلل أو تحريف.
جمعت الحكومة المصرية أفضل القرّاء في ذلك الوقت، وطلبت منهم أن يكتب كل قارئ المبلغ الذي يريد أن يتقاضاه لتسجيل المصحف المرتل كاملاً في مظروف، ثم يعطيه للجنة المختصة من الإذاعة المصرية، ولكنَّ قارئاً واحداً كان في مظروفه عبارة هي أثمن من أي مقابل مادي: "لا أتقاضى أيّ مالٍ على تسجيل كتاب الله".. ذلك الشيخ محمود خليل الحصري، فكان عام ألف وتسعمائة وستين نقلة في تاريخ قراءة القرآن، حيثُ تم أول تسجيل كامل للمصحف المرتل بقراءة حفص عن عاصم، وبصوت الشيخ الحصري، ثم تلا ذلك تسجيله بقراءات عدة، مثل ورش عن نافع وقالون والدوري عن أبي عمرو، وظلّ القرآن الكريم لعشر سنوات يُتلى آناء الليل وأطراف النهار على إذاعة القرآن الكريم، يسمعه القاصي والداني، العالمُ بالقرآن والذي لا يعرف القراءة، بصوت الشيخ محمود الحصري فقط، ليجري نهر ينهل منه الجميع، عربياً كان أو أعجمياً، يستمعون إلى آيات الله المحكمات بأحكام تلاوةٍ تخرج من فم قارئ ذي صوت عذب.
وكان الشيخ رحمه الله أول مَن سجّل القرآن الكريم (المصحف المُعلّم)، فكان نموذجاً للكتاتيب من بعده.
العالم أجمع يستمع إلى الحصري
ليست مصر فقط التي غنِمت من شيخ القرّاء، وأنّى لرجُل اقتبس من فيض رسول الله صلى الله عليه وسلم في تلاوته أن يقتصر نفعه على فئة بعينها.
سافر الشيخ الحصري في رحلة إلى الهند بناءً على طلب المسلمين هناك، وسافر إلى الولايات المتحدة، فقرأ القرآن في الكونغرس الأمريكي، وأقام الأذان بداخله، بل عندما قرّرت السعودية وضع مكبرات صوت لأول مرة في الحرم المكي أرسلوا طائرة خاصة تأخذ الشيخ إلى هناك لتُضبط الأجهزة على نبرة صوته وقراءته، فصار الحصري ميزاناً تُوزن به تلاوة القرآن في العالم الإسلامي.
وها نحن نرى، بعد ما يقارب نصف قرن على وفاته كتاتيب من أقاصي الدنيا في إفريقيا وفي بلاد أخرى، لا تقرأ القرآن إلا كما قرأه الحصري، فينشأ جيل ربما يحمل حُصريّاً جديداً يضيء الدنيا مرة أخرى كما أضاءها جَدّه الكبير.
بعض مشاهد حياته
تروي ابنة الشيخ الحصري عنه، أنه كان كلما أتى إلى القرية نزل من سيارته قبل شجرةٍ ثم ترجَّل، حتى إذا ما جاوزها ركب سيارته مرةً أخرى، فلما سُئل عن ذلك أخبرهم أنه قد أتمَّ حفظَ القرآن عند هذه الشجرة، فيستحي أن يمر من أمامها راكباً.
كما تقول إنه قد أصرَّ على شراء الأرض التي بها تلك الشجرة، فأقام عليها معهد الحصري التعليمي.
يحكي المقربون منه أنه كان ذكياً، ويظهر ذلك في حفظه القرآن مبكراً، كما كان يهتم بتحفيظ أهله القرآن، وحفظ أحفاده على يديه بعض أجزائه، وكان يوقظ أهله لصلاة الفجر بشكل خاص، ويؤمهم فيها.
حيّاً وميتاً
لم يكتفِ الشيخ الحصري بأن يهب حياته -ربما- كاملةً للقرآن ولنفع الناس، بل أوصى قبل مماته بثُلث تَرِكته لأعمال الخير، وقرَّر طلابه أن يُنشئوا بها مركز الحصري، الذي يشمل المعهد الابتدائي والإعدادي والثانوي، كما بنى مسجدين قبل وفاته.
كما ترك الشيخ رحمه الله كُتُباً تختص بعلوم القرآن الكريم مثل: القراءات العشر، مع القرآن الكريم، رواية الدوري عن أبي عمرو، ورواية قالون.
فلم يكن مجرد قارئ للقران، بل كان عالماً به، ولم يكتم تلك التلاوة ولا ذلك العلم.
سِرُّ بقاء الحصري أولاً وقبل الجميع
ربما السؤال الذي يطرأ على الأذهان دائماً هو: لماذا لم يأت مَن يتجاوز الشيخ الحصري طيلة هذه المدة، لأربعين عاماً بعد وفاته، وستين عاماً من أول نسخة مُسجلة بصوته!
كل هذه السنوات لم يأت من يضاهي الحصري في قراءته للقرآن الكريم، فجميع قرّاء القرآن في العالم الإسلامي ربما يبرعون بعض الشيء، ولكن إذا ما ذُكِرَ الحصري تراهم موضع التلميذ من الأستاذ، أو الابن من أبيه.
كان الشيخ الحصري متفرداً في تلاوة القرآن بالحرف، يقرأ القرآن بالحرف كما يقول كثير من أهل القرآن عنه، وذلك لا نراه في أكثر قرّاء القرآن في هذا العصر، لم يكن الحصري مهتماً في المقام الأول بالصوت العذب، بل بجودة القراءة، وأحكام التلاوة، والوقوف عند كل حرف وإعطائه حقه في المخارج والأحكام، فكان كما لو أنه يفسّر القرآن بتلاوته كما يفسره المفسرون في كتبهم، كما يقول أحد المقربين لديه.
والحقيقة أن تلك الأسباب والميزات التي تفرَّد بها الحصري كافية ليبقى أولَ قرّاء العالم الإسلامي على مرّ العصور، إلا أن هناك سبَباً أعظم…
لمَّا قرأتُ عن صفة تلاوة النبي صلى الله عليه وسلم للقرآن وجدت أن زوجته أُمَّنا السيدة أم سلمة رضي الله عنها تقول: كانت قراءته مفسَّرةً.
وفي رواية أخرى: كانت قراءته مدّاً، يمدّ في "بسم الله" ويمدُّ في "الرحمن" ويمدُّ في "الرحيم".
أي أنه صلى الله عليه وسلم كان يقرأ حرفاً حرفاً، ويقف عند كل حرف.
ولا أجد أحداً من قارئي القرآن الكريم أشبه بذلك الوصف في تلاوة النبي صلى الله عليه وسلم غير الشيخ الحصري رحمه الله.
رَحِم الله شيخنا ونفعنا بعلمه، وجزاه الله عنا خيراً.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.