قبيلة في البرازيل لغتها تتكون من 3 كلمات فقط.. عن عجائب اللغة

عربي بوست
تم النشر: 2019/11/20 الساعة 15:10 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2019/11/22 الساعة 15:58 بتوقيت غرينتش
اللغة كفيلة بتغيير العالم

نحن نعيش في سجن اللغة، إن الكلمات والنصوص والأصوات والحركات والجدران والنوافذ والشوارع والفضاء  والأفعال التي نقوم بها وتلك التي نفكر في القيام بها  ليست في نهاية المطاف سوى لغة، ما من شيء في هذا الكون يستطيع الفرار من قيدها، إننا نخلق الكلمات، نُعَرِّفُ بها وهي  بدورها تخلقنا في أذهان الآخرين وتُعرِّفُ بنا.

لا يمكن التخلص من اللغة، لأن كل ما يحيط بنا هو لغة، حتى عندما نرغب في دراسة علوم اللغة فإننا سنستعمل اللغة، إنه العلم الوحيد الذي يُدرَّس باستعمال نفسه، فتصبح اللغة غاية، وفي نفس الوقت وسيلة، إنك كمُتلَقٍ لن تسمح لي باستبدال عبارة "صباح الخير" بعبارة أخرى عشوائية كأن أقول مثلاً: "البحر أزرق" لأقدم لك تحية صباحية، إنك كقارئ ستُجبرُني على كتابة هذه التدوينة عن اللغة، عن طريق احترام ترتيب حروف كلمة "لغة"، ولن أستطيع إعادة ترتيبها عشوائياً، كأن أكتب "ت ل غ" مثلاً! وستدفعني لاحترام ترتيب المفردات داخل الجمل، فأنا لا أستطيع قول "اللغة عن تدوينة أكتُبُ"، وإنما "أكتُبُ تدوينة عن اللغة"، لأن الأمر ببساطة سيبدو غريباً وخالياً من أي معنى منطقي، عادة ما نعتقد أننا نُقَيِّدُ اللغة، ولكن اللغة هي الأخرى تقَيِّدُنا، تستعمرنا، تعتقلنا! إننا لا نستطيع تحقيق أي تواصل لغوي صحيح إلا عن طريق احترام نظامنا اللغوي، إننا نركع كل يوم لقواعد اللغة، سواء كانت لغة منطوقة أو مكتوبة أو إيمائية، إننا نستعمل اللغة وهي بدورها تستعملنا، فاللغة سلطة صارمة ومؤسسة جَبَّارة وقيدٌ حازم خانق لا يمكن التحرر منه لتحقيق أي تواصل شفهي أو كتابي أو إيمائي بشكل منطقي صحيح كامل.

هل يتجرد التفكير من اللغة؟

لعل من المُبهم تفسير معنى كلمة "وردة" مثلاً على أنها (جنس نباتي، وريقات متراصّة  بساق…) فالطفل الصغير جداً قد يدرك ما هي "الوردة" دون إدراك أنها (جنس نباتي، وريقات متراصة بساق…)، إن ما يُنسبُ كمعنى للوردة هنا  يبدو أكثر تعقيداً في ذهن الطفل من "الوردة" ذاتها، وبالتالي ما يُطلق عليه معنى يخلو في ذهنه من المعنى، إننا أمام صورة ذهنية وقابلية تعلمية فطرية تربط أصوات الكلمة بوجودها في المحيط الخارجي، وما نبحث عنه للربط بين الكلمة والمفهوم ليس المعنى، وإنما أمر آخر أكثر تعقيداً.

لعل من الخطأ ادعاء أننا نستعمل الألفاظ للتفكير، إننا نفكر أولاً ثم نترجم أفكارنا لكلمات، نترجمها لكلمات فقط إذا كان ذلك ضرورياً، يُميِّزُ عالِم اللغة الألماني فيلهلم فون همبولت مرحلتين يمر منهما الفكر، مرحلة تفكير أولية سابقة لمرحلة النطق، وهي تتميز بتدفق سيل من الأحاسيس المشوشة والمشاعر الملتبسة والتصورات المخلوطة والرغبات المخفية، ثم مرحلة تفكير تحليلية مُعارضة للمرحلة الأولى من حيث نسقها التحليلي المرتَّب في كلمات منظمة مترجمة نظرياً جاهزة للنطق.

تُشَكِّلُ اللغة شرطاً للتفكير، فقط عندما يبلُغُ مرحلته المنطوقة أو مرحلة التفكير المنطوق، فاللغة إذن هي الأداة التي تسمح للفرد بتحقيق قفزة من مرحلة التفكير العشوائي الأولي المُبهم إلى مرحلة التفكير المنظم نظرياً، إنها أداة فكر وأداة تواصل، أداة معرفية، ونظام ناقل للمعلومات.

 تؤثر الثقافة في اللغة والعكس صحيح

 قام عالم النفس واللغوي بيتر جوردون من جامعة كولومبيا، بدراسة الحتمية اللغوية في بحث -نُشر في مجلة Science في عام 2004- حول "البيراها" وهو أحد الشعوب الأصلية الموجودة في غابة الأمازون بالبرازيل، من مجتمعات الصيد وجمع الثمار،  فاكتشف أن لهذه القبيلة ثلاثة مصطلحات فقط للإشارة إلى الأرقام  وهي: hoi "واحد" و hoí "اثنان" و aibai "كثير" ، ونتيجة لذلك، يجد المتحدثون صعوبة في التعامل مع كميات أكبر من ثلاثة، بالإضافة إلى ذلك، ليس لديهم كلمات للألوان، ولا يستخدمون جملاً نسبية، وهذه الملاحظات ليست سوى تأكيد قوي على وجود علاقة تبادلية دائرية لا نهائية تربط بين اللغة والثقافة، لا تخلو اللغة من الثقافة ولا تخلو الثقافة من اللغة، فاللغة منتج ثقافي وهي في نفس الوقت شرط لوجود الثقافة. 

تؤثر اللغة على طريقة رؤيتنا للوجود وفهمنا له وتفاعلنا معه، يزخر العالم بطرائق تفكير مختلفة وتصورات ثقافية متنوعة، الأمر الذي يرتبط ارتباطاً وثيقاً بتداول مختلف الشعوب لأنظمة لغوية متباينة، في جميع اللغات، هناك أمثلة واضحة لكيفية تصورنا للواقع بشكل مختلف عند الانتقال من لغة لأخرى، ولتفسير ذلك، يستشهد اللغوي ماريو باريني في إحدى مقالاته بمثال من اللغة الروسية، إذ يُطلق الروس على اللون الأزرق تسميتين مختلفتين نطقاً وكتابة، بينما تكتفي لغات أخرى بوصل كلمة "أزرق" بمفرد آخر إضافي لتمييز درجة اللون، ويرى أن ذلك لا يعني أن المتحدث الروسي يرى تلك الألوان بشكل مختلف عن بقية المتحدثين الذين لا تتوفر لغاتهم إلا على تسمية واحدة للون الأزرق، وإنما يعني أن اللغة الروسية تنظم رؤية متحدثيها لهذه النقطة بشكل مختلف، كما يدرج اللغوي ماريو باريني مثالاً من لغة الإسكيمو، إذ تحتوي هذه اللغة على حوالي أربعين مرادفاً لكلمة ثلج وأكثر من ثلاثين تسمية للون الأبيض. 

كيف نشأت اللغة؟

لعل من الخطأ ادعاء أن اللغة اخترعها البشر للتواصل، إن قول ذلك شبيه بادعاء أن الإنسان ابتكر عينين لرؤية أخيه الإنسان، وأذنين لسماعه! لعل العكس هو الصحيح، فاللغة موجودة فينا، إنها تلك القدرة على اكتساب واستخدام نظام معقد للتواصل،  إننا بفضل وجود اللغة خلقنا التواصل، واللغة الإنجليزية أو الفرنسية أو العربية ليست سوى أحد الأمثلة المحددة من هذا النظام، ليست سوى نسق من الإشارات والرموز التي تشكل نتيجة لتلك القابلية كأداة من أدوات المعرفة والتواصل، يرى عالم اللسانيات والمؤرخ والناقد والناشط السياسي والفيلسوف الأمريكي نعوم تُشُومِسْكِي أن الانسان لا يتعلم اللغة، وإنما تُشكل هذه الأخيرة جزءاً من معداته الوراثية الجاهزة التي يقوم بتطويرها وصقلها وتحفيزها بقدرات أخرى خارجية مكتسبة، أي أن تداول الكائن البشري للغة قائم أولاً وقبل كل شيء، على وجود مسبق لقابلية وراثية، أما ما يرافقها من عوامل بيئية تساعد على اكتمال خصائص النُّضْج الفِكْرِيّ لديه واكْتِمَال المَدَارِكِ وَوُضُوحُهَا، واكتساب خبرة التفكير المنظم فهي ليست سوى مجرد آليات تحفيزية وتحريكية لتلك القابلية الجاهزة. 

يكشف علم الآثار عن البقايا المادية التي خلفها الإنسان القديم وعلى نفس النحو تكشف الإتيمولوجيا أو علم أصل الكلام  ألفاظاً أصلية شكّلَت اللفظ الأم، الذي تفرعت عنه مجموعة من المفردات المتشابهة في العديد من اللغات  واللهجات،  فكلمة enthousiasme الفرنسية التي تعني حماس، وشبيهاتها في كل من الإسبانية entusiasmo والإيطالية entusiasmo  والكتلانية entusiasme والبرتغالية entusiasmo… ليست في أصلها الإتيمولوجي سوى تطور لعبارة إغريقية قديمة تعني: "نفحة داخلية من الله". 

 تُحيلُ بعض المفردات المتداولة بشكل متشابه في العديد من اللهجات العامية العربية، ألا وهي "السميقري" باللهجة الجزائرية و "السقنطري" في تونس، و "الصّْمِيقْلِي" في المغرب، و "السميطري" و "السفينقري" في ليبيا… على البرد الشديد، ويُرجح أن الأصل الإتيمولوجي لهذه المفردات يعود لأصل أمازيغي، إذ تعتبر كلمة "الصميقلي" كلمة أمازيغية مركبة من "الصّْمِ" و "إقلي"، أي "تجمدت الوزغة"، بمعنى أن هناك برداً قارساً جداً، حتى إنه يجمد الوزغة. 

يُحيل علم الإتيمولوجيا أيضاً على طرائق التفكير القديمة وأسرار معيشة الإنسان القديم وكيفية تصوره للكون وللعلاقات الاجتماعية، عندما تخطر ببالك ذكرى جميلة تستوقفك طويلاً، تذكَّر معها أن كلمة "تَذَكَّرَ" باللغة اللاتينية تعني في أصلها الإتيمولوجي: "عودة المرور عبر القلب"! اللاتينية لا تقول: "خَطَرتَ ببالي"، وإنما "عبرتَ من جديد عبر قلبي"، ويتمثل ذلك في فعل "Recordari" "تَذَكَّرَ" والذي يتكون من "Re" والتي تعني "من جديد" و "cordar" من "cordis" بمعنى "القلب"، ومنها اشتقت اللغة الإسبانية فعل "Recordar تَذَكَّرَ"، وبالتالي "تذكرتُك" بالإسباني ليست في أصلها اللاتيني سوى "مررتَ من جديد بقلبي!". 

اللغة كفيلة بتغيير العالم

تعتبر اللغة سيفاً سياسياً ذا حدين، فهو سلاح داعٍ لوحدة الشعوب، وممزق لها في نفس الوقت، تميل الشعوب للتوفيق بين الحدود اللغوية والحدود الوطنية. وهذا ما ينعكس على الكثير من الحركات السياسية المنتشرة في مختلف أرجاء العالم، تتبنى بعض الحركات الأمازيغية مثلاً كلمة "تامازغا"، وهو لفظ محدث باللغة الأمازيغية للإحالة على أرض الأمازيغ في شمال إفريقيا والمغرب العربي، يُصر الكاتالونيون والباسكيون على الاعتزاز باختلاف ثقافتهم عن ثقافة غيرهم من الإسبان لتداولهم الباسكية والكتلانية، وهي لغات رسمية مستقلة ومختلفة عن اللغة الإسبانية، يشعر المواطن المكسيكي أنه أقرب ثقافياً للإسباني بدلاً من جاره الأمريكي الناطق بالإنجليزية، ويعود ذلك لتداول كل من المكسيكي والإسباني لنفس اللغة، أي اللغة الإسبانية. 

إن أكبر التحديات التي تواجهها الحكومات تتجلى في اختبار مدى قدرتها على تشكيل مواطنة مفتوحة، وتعزيز عدالة اجتماعية، وترسيخ مبادئ عيش مرنة في ظل ابتكار عالم منفتح على التعددية اللغوية. 

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

علامات:
سميرة فخرالدين
مدونة وباحثة
تحميل المزيد