جميعنا يعرف قصة الأندلس، من فتحها في العصر الذهبي للإسلام إلى سقوطها بيد الإسبان، وربما نعلم جميعاً أيضاً بشأن "الموريسكيين"، وهُم المسلمون الذين أُجبروا على اعتناق المسيحية، وإلا فسيواجهون التنكيل والقتل والتشريد، لكن هل جميعنا يعلم عن ثورة البشرات أو عن قصة الأمير المسلم محمد بن أمية؟
وُلد الدون "فرناندو دي كردوبا وڤالور" عام 1520م، لأسرةٍ عريقة، فهُم من أعيان حي البيازين في غرناطة، وهو حي الموريسكيين، كان غنياً من أعيان المسلمين، وفي الوقت نفسه كان سليلَ بني أمية، الأسرة التي نعرفها جميعاً، والتي حكمت الأندلس ما يقارب ثلاثة قرون.
قاد محمد بن أمية أهم ثورةٍ قام بها المسلمون في الأندلس ضد الإسبان، وتحديداً ضد الملك فيليب الثاني، الذي ورث عن أبيه ملك إسبانيا واضطهاد المسلمين فيها.
كان محمد بن أمية مستشاراً في غرناطة، وحسب ما وصلنا من أخبارٍ عنه يبدو أن حميَّته قد ثارت في مجلس المدينة واستلَّ خنجراً، فوُضع تحت الإقامة الجبرية. ولا نعرف سبب استلاله هذا الخنجر في شبابه المبكر، لكننا نعرفُ بالطبع دوره لاحقاً.
لنرجع معاً إلى الوراء.. ثورة الموريسكيين على الاضطهاد الإسباني
يُقال إن الملك الإسباني فيليب الثاني حنث بوعوده التي سبق أن قدمها للمسلمين، بهدف افتعال ثورةٍ بينهم تُعطيه سبباً مناسباً لطرد الموريسكيين من جنوب إسبانيا، بل إنه أصدر مرسوماً يُطالب الموريسكيين فيه بالتخلِّي عن أسمائهم العربية، وعن لباسهم التقليدي، ويُجرِّم التحدُّث بالعربية والأمازيغية. وقيل لهم إنهم سيُسلِّمون أبناءهم ليتعلَّموا على أيدي كهنةٍ مسيحيين.
لكن هذا التحليل يتغاضى قليلاً عن أحداث الثورة والسياق والأحداث المحيطة بها، فقد كان المسلمون الموريسكيون بالفعل تحت اضطهادٍ غير مسبوق، فقد مُنعوا من ممارسة شعائرهم الدينية الإسلامية، كما أُجبروا على اعتناق المسيحية بالفعل، بل إنه في شهر رمضان -في بعض الفترات- مُنعوا من إغلاق أبواب بيوتهم، كي لا يصوموا أو يفطروا في أوقات الإفطار أو يتناولوا السحور وقت الفجر، ومن هنا بدأت الثورة التي كانت تعتمل في صدور المسلمين المضطهدين بإسبانيا.
أدَى الاضطهاد المتزايد للبقية الباقية من الموريسكيين بعد انهيار مملكة غرناطة إلى تفجير ثورةٍ مسلحةٍ عارمة. خطط للثورة وقادها في بدايتها قائدٌ اسمه "فرج بن فرج"، ينحدرُ من العائلة المالكة لغرناطة، والقائد ابن عبو، الذي ينحدر من السلالة الأموية.
تحققا معاً بعنايةٍ فائقة من تنظيم سكان البُشرات، والذي يعتبر أفضل مكانٍ لمواجهة القوات الملكية الإسبانية، والتمسا العون من ملوك المغرب في شمال إفريقيا، وأيضاً من سلطان العثمانيين بإسطنبول.
وفي ليلة عيد الميلاد من عام 1568، اجتمع ممثِّلون عن مسلمين يكتمون إسلامهم من غرناطة ومن البُشرات ومن أماكن أُخرى، واجتمعوا سراً في مكانٍ يُسمى "وادي الإقليم"، ليُبايعوا شخصاً ما، قائداً وملكاً لهم، ولم يجدوا أفضل من الدون "فرناندو دي كردوبا وڤالور" ليصبح ملكاً لهم، فترك اسمه الإسباني واتخذ اسمه العربي المسلم "محمد بن أمية"، وأعلنوا تنصيبه ملكاً، وارتدّوا عن المسيحية التي أُجبروا عليها، تزوّج ابن أمية بأربع نساءٍ من مناطق مختلفة، لتعزيز التحالفات السياسية التي اعتمد عليها.
واتخذت انتفاضة ابن أمية شكل حرب العصابات ضد القوات القشتالية في جبال البُشرات. وسرعان ما تزايدت أعداد قوات المتمردين، فبلغت 25 ألف مقاتلٍ بعد أن كانوا أربعة آلافٍ فقط في البداية. بالطبع، ستفهم وحدكَ أن مهمة ابن أمية كانت صعبةً للغاية ومُربكة، إذا نجحت فله ملك الأندلس الضائع، وبطولةٌ على صفحات التاريخ، وإن فشلت فليس له سوى الموت!
يجدر بنا أيضاً أن نذكر أن مصدر كل المعلومات التي وصلتنا عن تلك الثورة كان عن طريق المؤرخين الإسبانيين فقط، وليست لدينا وجهة نظر المؤرخين المسلمين بالطبع، لكننا حاولنا -في هذا التقرير- تجميع التفاصيل بربط الأحداث والسياقات معاً.
نهاية محمد بن أمية لا تعني نهاية ثورة البشرات
بدأت ثورة البشرات في أولى خطواتها، بتأليب جميع المسلمين الموريسكيين بالخروج على الإسبان، بل إنهم استطاعوا إسقاط بعض الحاميات العسكرية الإسبانية والسيطرة على بعض المُدن، وبدأ القادة الإسبان المحلِّيون محاولاتهم للقضاء على ثورة المسلمين الثائرين، ونجد لدى بعض المؤرِّخين الإسبان بعض الحياد والموضوعية عند حديثهم عن ابن أمية، فقد قام قائده العام فرج بن فرج بقتل بعض المدنيين، ولم يوافقه على ذلك محمد بن أمية، بل إنه أقاله من منصبه، وهكذا تتراوح الروايات بين شيطنة الثائرين وبعض الموضوعية.
كان جيش الموريسكيين مؤلفاً من جنود ذوي خلفياتٍ عسكرية مختلفة للغاية، فبعضهم من الجند الأتراك المرتزقة، وبعضهم من المغاربة الذين لبُّوا نداء استغاثات إخوانهم في الأندلس المنكوب، والبقية مما تبقى من المسلمين الموريسكيين في الأندلس، وفقاً لما ذكره الدكتور محمد عبدالله عنان بكتابه "دولة الإسلام في الأندلس".
كان لتركيبة الجيش المتباينة داخلياً بعض التأثيرات السيئة، وهي هذه التأثيرات التي أنهت حياة ابن أمية، بحيلةٍ من أحد ضباطه الذين لم يتفقوا معه أو وقعت عليهم مظلمةٌ منه، أو اتخذ هو بعض القرارات التي لم تعجبهم.
الرواية الأشهر لمقتله هي أنه كان لديه ضابطٌ كبير اسمه ديجوالجوازيل (ديجو الوزير)، وكانت له عشيقة حسناء تدعى "زهرة" فانتزعها منه قسراً، وهو ما أثار الحقد والضغينة في قلب ديجو وكذلك بقلب زهرة، وسعيا معاً في التخلُّص من محمد، في روايةٍ أخرى فإنَّ محمد أُعجب بامرأةٍ حسناء هي ابنة عم هذا القائد، فاتخذها ابن أمية عشيقة، فغضب الضابط، الذي رأي أنها لعلوّ منزلتها يجب أن تكون زوجته لا عشيقته، ومن هنا بدأت المؤامرة للتخلُّص منه.
هذه هي الرواية الإسبانية عن مقتله، وليس هناك مصدرٌ آخر يحكي لنا عن السبب، فالأمير سليلُ بني أمية الذي تم تنصيبه ملكاً على الأندلس، قُتل في مؤامرةٍ من ضباطه.
فقد زوَّر هذا الضابط رسالةً على لسان ابن أمية مختومةً بختمه يطلب فيها من قائده العام (ابن عبو) أن يتخلص من الأتراك في الجيش! وما إن وصلت الرسالة إلى الجند الأتراك حتى عادوا إلى مقر الأمير واغتالوه.
كان تنصيب ابن أمية، في ديسمبر/كانون الأول من عام 1568، وتم اغتياله في 20 أكتوبر/تشرين الأول من عام 1569، أي إن إمارته لم تطُل أكثر من 10 أشهر.
وبغضّ النظر عن سبب مقتل ابن أمية، أو عن اليد التي قتلته، لكن اغتياله الذي كان وقعه بالطبع حزيناً على قلوب وأسماع الموريسكيين، فاقترح القادة أن أفضل تصرّفٍ ممكن هو وضع القيادة في يد رجلٍ آخر من أصولٍ نبيلةٍ يُمكن الوثوق به، رجل يخدم مصالح المسلمين، فبويع ابن عمه قائد الجيوش ابن عبو ملكاً للموريسكيين باسم مولاي عبدالله محمد بن عبو.
فيما يبدو، فقد كان ابن عبُو قائداً أكثر حنكة من محمد بن أمية، فاستطاع أن يسوس قادة الجند بطريقةٍ جيدة، إذ إنه كان القائد العام للجيوش بالأساس، كما استطاع إيقاع عديد من الهزائم بالإسبان، فازدادت الثورة اشتعالاً، قابل الإسبان الثورة بمزيد من القتل والتهجير للموريسكيين المدنيين العاديين، بل إنهم قاموا بإحدى المذابح حين قتلوا 150 من أعيان غرناطة كانوا في السجون وصدر حكمٌ عام بإعدامهم.
قرر الملك فيليب الثاني الاستعانة بأخيه غير الشقيق وغير الشرعي، الأمير النمساوي دون خوان، ليقضي على الثورة التي كادت تمزق أرجاء ملكه خلال السنتين الماضيتين، فقاد دون خوان معركته مع الثورة، وحقق بعض الانتصارات، ومُني ببعض الهزائم، لكنه استطاع في النهاية عبر عديد من المجازر التي ارتكبها في الموريسكيين المدنيين وعبر بعض الضغط للتفاوض مع الثوار، أن يُخمد الثورة، وبقِي ابن عبُو مرابطاً في الجبال حتى أخذته أيضاً يد غدر وخيانة أحد ضباطه الذين وعدهم الإسبان بالمال والمناصب.
بعد ذلك رُحّل كل سكان البُشرات تقريباً إلى قشتالة وغرب الأندلس وأُعيد تسكين ما يزيد على 270 قريةً ونجعاً بمستوطنين من شمال إسبانيا. أما بقية القُرى فقد أُخليت. وأدى ذلك إلى تدمير صناعة الحرير التي كان يتقنها الموريسكيون عدة قرونٍ.
كما أمر الملك فيليب الثاني بتشتيت 80 ألف موريسكيٍّ من غرناطة وغيرها من البلاد. وتوقَّع أن ذلك سيُجزِئ المجتمع الموريسكي ويُسرِّع من استيعابهم ضمن المجتمع المسيحي. غير أن توزيع موريسكيي غرناطة في مملكة قشتالة قد كانت له بعض الآثار في الواقع على الموريسكيين المحليين الذين كانوا أكثر اندماجاً حتى ذلك الحين. قاد ذلك في نهاية المطاف إلى الطرد الشامل للموريسكيين لاحقاً، ولهذا قصة أخرى.